اعمدة رأي

بروفيسور صلاح محمد إبراهيم…يكتب

تعلمنا من ممارسة الكتابة ومخاطبة الرأي العام والمسؤولين والسياسيين أنه في بعض الأوقات لابد من ارسال رسائل صادمة حتى يستيقظ الناس من ثباتهم أو جهلهم أو تجاهلهم للواقع، خلال الاسبوعين الماضيين اختتمت اجتماعات كل من الهيئة الفنية المشتركة لمياه النيل والتي توقفت اجتماعاتها خلال الأربعة سنوات الماضية ربما لأسباب تعود لقضية سد النهضة، وكذلك اللجنة المشتركة للمعابر الحدودية، ولابد في مثل هذه اللقاءات أن يتم طرح القضايا بعيداً عن الأطر التقليدية التي عفا عليها الزمن وأن تتم بفهم عميق لطبيعة المتغيرات التي طرأت على هذه العلاقة خلال السنوات الماضية والتي تضاعف فيها الحراك السكاني وحركة النقل وتبادل السلع وحركة رأس المال وافرازات الوجود السوداني الضخم في مصر الان ، لقد لاحظت خلال فترة عملي في مصر أن هناك إدارة خاصة بالسودان في وزارة الخارجية المصرية ، واظن لا يوجد نظير لها في الخارجية السودانية ، فالشئون المصرية تقع ضمن الدائرة العربية.

لقد حان الوقت الذي لابد أن نراجع فيه العلاقات السودانية المصرية من خلال الجانب الإيجابي لنظرية المجال الحيوي بعد أن تحولت العلاقات السودانية المصرية عبر مراحل تاريخ البلدين إلى فهم مشترك لتبادل المنافع والتعاون المشترك بدلاً من المفهوم القديم القائم على العداء والاستحواذ الذي فرضته الجغرافية السياسية ونظرية المجال الحيوي في صورتها التقليدية ، وعلى الرغم من فترات الصعود والهبوط في تلك العلاقات لأسأب سياسية واحياناً أمنية، إلا أن النيل ظل الضامن الاستراتيجي الأول في مستقبل هذه العلاقة وكل المصالح الاستراتيجية لم تتوقف إلا نادراً ، و حركة المواطنين لم تتأثر كثيراً إلا من خلال إجراءات استثنائية فردية.

لذلك لابد لمثل هذه اللجان الفنية عندما تجتمع أن تأخذ في الاعتبار هذه المستجدات التي لها علاقة بما يمكن ان نطلق عليه الدور الايجابي لنظرية المجال الحيوي الذي ما زال يفرض نفسه على الكثير من الدول في العصر الحديث بعد أن تجاوز الزمن موضوع الاستعمار ، وأصبحت فكرة التوسع والتمدد تعني جني فوائد مشتركة خاصة للأطراف المتجاورة في اطار من التعاون والشراكة ، ولكن ذلك لا يلغي التراتبية بين الدول.

بعض السياسيين السودانيين منذ ما قبل الاستقلال يقرأون التاريخ ولا يستفيدون أو يعتبرون منه ، وحظهم من فهم طبيعة الجغرافية السياسية للسودان قليل ومتواضع و منغلقين على أنفسهم ، ولا زالوا مكبلين بقيود واطر الفهم القديم للنظرية التي بشر بها(اوسكار بسكال وراتزل ) قبل أن بتم وضع أسسها في عام 1901، وهم يجهلون ادراك نتائجها الإيجابية، فالنظرية في فهمها التقليدي ترى ان الدولة تشبه الكائن الحي لديها احتياجات ومتطلبات للعيش ، واذا كانت قدرات الدولة اكبر من مساحتها الجغرافية فعليها في هذه الحالة ان تتوسع من اجل ان تؤمن احتياجات سكانها من الغذاء ولو أدى ذلك إلى استخدام القوة ، وهذا ما فعله المستوطنون الأوائل الذين هاجروا من إنجلترا إلى سواحل نيوانجلند في الساحل الشمالي الشرقي لأمريكا واسسوا دولة ووجدوا انفسهم في قارة جديدة وتوغلوا غرباً في أراضي السكان الأصليين ( الهنود الحمر) واستحوذوا عليها.

امتلك المهاجرون الأوروبيين الة الحرب الحديثة وغزو مناطق الغرب الأوسط والجنوب ووصلوا إلى سواحل المحيط الهادي، ومارسوا ما يمكن تسميته الإبادة الجماعية للسكان الأصليين كما كنا نشاهد في أفلام الكابوي ( الويسترن )، جرت هذه الأحداث قبل أن تظهر فكرة نظرية المجال الحيوي في نهاية القرن التاسع عشر و كانت تطبيقاً عملياً سبق النظرية ، وطبقها محمد على باشا عندما قام بفتح السودان تماماً كما فتح المستوطنون الأوروبيين اميركا.

بعض الدراسات تربط بين نظرية المجال الحيوي والتوسع الاستعماري، ولكن التوسع الذي قامت به بعض الدول المتقدمة لم يكن كله خراباً ودماراً ، صحيح حدثت مقاومة للتوسع كما حدث في اميركا وافريقيا ودول شرق اسيا، وقاومت الدول الأوروبية توسع هتلر في القارة الذي كان يعتبر بعض دول القارة ضمن المجال الحيوي لألمانيا، ومع ذلك استطاعت الكثير من الدول التي حدث فيها مثل هذا التوسع أن تنمو وتتطور بسرعة مذهلة ، وخير دليل الولايات المتحدة الأميركية التي استفادت من ثورة التكنولوجيا الأوروبية التي بدأت في أوروبا قبل حوالي نصف قرن من اكتشاف اميركا باختراع المطبعة حوالي عام 1445، بينما اكتشفت اميركا 1492، اي قبل اكثر من عشرة اعوام من تأسيس أول دولة سودانية في سنار عام1504 ، وبمكن القول أن التوسع الألماني في أوروبا قد نقل ايضاً التكنولوجيا الألمانية إلى الكثير من الدول التي احتلتها المانيا.

كذلك تطورت دول جنوب شرق اسيا وكوريا وفيتنام وحتى الصين في العصر الحديث من التزاوج الذي حدث بين التكنولوجيا ورأس المال الغربي مع سياسة القلاع العائمة وحاملات الطائرات الأميركية التي تجوب المحيطات وترتكز قرب السواحل القارية بما يشبه التمدد والتوسع، وقد أدى هذا التوسع الأميركي غير التقليدي إلى توسيع المجال الحيوي للولايات المتحدة وإلى نقل التحديث والتكنولوجيا الغربية إلى الصين مع المتغيرات التي حدثت في الفكر الشيوعي والانفتاح على الحضارة الغربية.

توسع محمد علي باشا في السودان عام 1820، لتحقيق طموحاته في تطوير وتعمير مصر وهو أمر معروف عند الكثير من الأكاديميين السودانيين في جامعة الخرطوم في اطروحاتهم العلمية الذين ذكروا أن السودان تطور خلال فترة الحكم التركي الأول والثاني كما كان بعض المؤرخين يطلقون علي تلك القترة ، خاصة في الزراعة والعمران الحديث، وفي اعتقادي أننا في السودان لم نستفد بالقدر الكافي من هذه العلاقة ، بعض الأسباب تعود إلى محاربة بريطانيا لتلك العلاقة وتبني تيارات معادية لها ، وبعضها يعود لعدم فهم طبيعة الجغرافية السياسية التي جعلت السودان يقع ضمن المجال الحيوي لدولة متقدمة عليه مثل مصر التي ارتبطت بالحضارة الأوروبية منذ عصر اليونان والرومان والثورة الفرنسية قبل أن يصل محمد علي باشا وبريطانيا إلى السودان بفترة طويلة ، وهذا الأمر له علاقة بانتقال الحضارات كما جاء في كتاب ( قصة الحضارة) لويل ديورانت .

لقد كان الخديوي إسماعيل باشا ابن محمد على ( هو ليس إسماعيل الذي قاد حملة السودان) يعتقد أن المجال الحيوي لمصر يمتد حتى دول شرق افريقيا ومنابع النيل واسس امبراطوريته بناء على ذلك الفهم وتوسع حتى الصومال ، ومع تقلص مساحة هذه الإمبراطورية وتحولها إلى عدة دول ، ما زال النيل يشكل الركيزة الأساسية التي تقوم عليها نظرية الأمن القومي المصري لآنه مرتبط بحياة السكان .

الولايات المتحدة الأميركية مجالها الحيوي يمتد إلى الاف الأميال عبر المحيط الأطلنطي إلى أوروبا وتتدخل في القارة الأوروبية وشرق اسيا كلما ظهر خطر يهدد مصالحها كما هو حادث الان في الحرب بين أوكرانيا وروسيا ، أو كلما هددت الصين تايوان وتقوم بإرسال حاملات الطائرات ويمتد ذلك ايضاً عبر المحيط الهادي حتى اليابان وكوريا الجنوبية ، وهي تنفق بلايين الدولارات لحماية مجالها الحيوي، وعلينا في السودان أن لا نستهين بفكرة المجال الحيوي واهميتها في استراتيجيات الدول وعمقها الحيوي، هناك ملايين السودانيين الذين يعيشون في مصر أكثر بكثير من بضعة الاف من السودانيين الذين يعيشون في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وتخلوا عن جنسياتهم أو اكتسبوا جنسية مزدوجة ، وهم يعارضون كل الحكومات في السودان خدمة لأجندة الدول التي يعيشون فيها ولا يدخلون في الحسابات الأميركية ومجالها الحيوي، لأن السودان لا يحتل أولوية ضمن المجال الحيوي للولايات المتحدة الأميركية ، وهو بخلاف الوجود السوداني المقيم في مصر والتدفق الذي يحدث الان بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي الذي يؤثر على الدولة المصرية في حالة حدوث فوضى في السودان الذي يعيش بدون حكومة منذ عام بسبب عدم مسؤولية بعض السياسيين المتشاكسين الذين لا يفهمون الجغرافيا والتاريخ، ولا يقدرون درجة الخطر الذي ينتج عن عدم قراءات الأبعاد الاستراتيجية لتصرفاتهم ومواقفهم الفطيرة، السودان اليوم لا يقع ضمن المجال الحيوي لبريطانيا أو الولايات المتحدة الأميركية ـ، لذلك لا افهم مشاركة الدولتين في اللجنة المعروفة بالرباعية، كما لا افهم مشاركة دول الإيقاد في لجنة فولكر ، لأن هذه الدول لا تأثير لها على السودان ، بل ربما هو العكس، أن بعضها يقع ضمن المجال الحيوي للسودان وهي بالتالي في موقع اضعف .

لقد كان الرئيس جعفر النميري أكثر حكام السودان الذين فهموا الاسس التي يجب أن تقوم عليها العلاقات السودانية المصرية، لذلك تم تشكيل مؤسسات التكامل وتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك ، واصبح المجال الحيوي للدولتين مشتركاً خارج الحدود السودانية المصرية ، الان بعد فتح المعابر الحدودية نحتاج للعودة لمزيد من تعميق هذه الخطوات.

النيل الإلكترونية

يزدحم الفضاء الالكتروني بالأخبار، وناقليها؛ بجدّها وجديدها.. فما الجديد إذن؟! هي (صحيفة النيل الإلكترونية) وكالة إخبارية مساحتها للكلمة الصادقة، ولا غيرها..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى