بحصافة – امام محمد امام يكتب…
غيب الموتُ، الذي هو مُدركنا أينما كنا، إذ لا فرار لنا منه، ولا نجد منه مهرباً، فهو القضاء المبرم (الموت)، سواء أدركنا بغتةً (موت الفُجاءة) أو بقضاءٍ مؤجلٍ (المرض). وقد نبأنا الله تعالى، بأن الموت مسطورٌ في لوحٍ محفوظٍ، ومحددٌ في أجلٍ مكتوبٍ، ولكل أجلٍ كتابٍ مبينٍ، وكل نفسٍ لا محالة ذائقة الموت، تصديقاً لقول الله تعالى: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ”.
وكل نفسٍ ذائقة الموت، تبياناً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”، وتأكيداً لما جاء في ثنايا التماسة الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سُلمى لعفو رسول الله صلى الله عليه وسلم من حِكمةٍ بليغةٍ، في حضرة النبي الكريم، حين قال:
كل ابن أُنثى وإن طالت سلامتُهُ
يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
فقد فقدت الأمة الإسلامية، عالماً فذاً، وفقيهاً مجدداً، وأصولياً بارعاً، ومفسراً لكتاب الله جامعاً، وشارحاً لأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدققاً، الشيخ الدكتور يُوسُف عبد الله القرضاوي، الداعية الإسلامي المعروف، حيثُ مضى في سُننِ الأولين والآخرين إلى رب العالمين، وذلكم في يوم الاثنين 26 سبتمبر (أيلول) 2022، عن عُمرٍ يُناهز الستة وتسعين عاماً.
شغل الشيخ الراحل الدكتور يُوسُف القرضاوي العديد من المسؤوليات، وكانت تُفاخر المنظومات والمؤسسات والهيئات برئاسته أو عضويته لمجالس أمنائها أو إداراتها، منها رئاسته وتأسيسه للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ورئيس هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي، و رئيس المجلس الإسلامي العلمي للكلية الأوروربية للدراسات الإسلامية في فرنسا، وعضو مجلس الأمناء لمركز الدراسات الإسلامية في أكسفورد، وعضو مجلس الأمناء لمنظمة الدعوة الإسلامية في أفريقيا، وعضو مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وغيرها فهم كُثر.
لم يكن الشيخ الراحل يُوسُف القرضاوي، عالماً جهبذاً، ولا فقيهاً فذاً ولا مؤلفاً موسوعياً، بل كان فوق هذا وذاك، داعياً إسلامياً عظيماً، شهدت له بذلكم منابر المساجد، ومنصات الندوات والمؤتمرات، وبرنامج “الشريعة والحياة” في قناة الجزيرة الفضائية. ولذلك فإن وفاته يوم الاثنين الماضي، بعد صراعٍ مع المرض، كانت فقداً عظيماً، ومصاباً جللاً للأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، ولعارفي علم وفقهه وفضله في البلاد الإسلامية وخارجها. فكأن بوفاته بُنيان الدعوة الإسلامية المعاصرة قد تهدمَ. وكأن الشاعر العربي عبدة بن الطبيب قد عناه، عندما قال راثياً قيس بن عاصم المنقري:
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ
ولكنه بُنيانُ قومٍ تهدّما
وهب الشيخ الراحل القرضاوي حياته، مبيناً لأحكام الإسلام، مدافعاً عن أمته وقضاياها.
ومما لا ريب فيه، أنني إنْ حاولتُ في هذه العُجالة الرثائية أن أرثيه، فلن أفيه حقه من الذكر والتخليد، لغزير علمه، وواسع فضله. وعزائي في ذالكم أن الرثاء في اللغة العربية بتصريفاتها، كما جاء في “لسان العرب” لمحمد بن مكرم بن علي أبي الفضل جمال الدين بن منظور الأنصاري الرويفعى الأفريقي بمعنى: “البكاءُ على الميت بعد موته ومدحه وتعديد محاسنه، أو نظم شعر فيه بعد موته”. واصطلاحاً الرثاء هو التوجع والحزن، ومنه رثاء النبي صلى الله عليه وسلم لسعدِ بنِ خولةَ رضي الله عنه، كما في البخاري وغيره، فقد رثاه بقوله: “لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ” يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. وقال شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني في (فتح الباري) “.. ويُقال رثيته إذا مدحته بعد موته، ورثيت له إذا تحزنت عليه”.
ووجب علينا، نحن الذين نعرف غزارة علمه، وعظيم فقهه، وجزالة حديثه بين الناس، أن نرثي له، أي نتحزن عليه. وان نعزي أهليه ومشائخنا وتلاميذه جميعاً على هذا المُصاب الجلل، الذي أصابهم من جراء وفاته. والتعزية لغة: من (عَزِيَ) (يَعْزى) من باب (تَعِب)، أي صبر على ما نابه، فهو عزٍ، وعَزِيٌّ (وعزيتُه تعزيةً) قلت له: أحسن الله عزاءك، أي رزقك الصبر الحسن، والعزاء الصبر عن كل ما فقدت. ويُقال: إنه لعزيٌّ صبور، إذا كان حسن العزاء على المصائب، وتعزّى تعزياً، أي تصبّر تصبُّراً، وفعل الأمر منه تعزّ، ومن ذلك قول الشاعر:
تعزَّ فلا شيءٌ على الأرض باقياً
ولا وزرٌ مما قضى الله واقياً
وإذا استعرضنا في هذه العُجالة الرثائية سيرة شيخنا القرضاوي العطرة الباذخة، فإننا نجده قد حفظ القرآن الكريم وهو دون العاشرة من العمر، والتحق بالأزهر حتى تخرج من الثانوية، وكان ترتيبه الثاني على المملكة المصرية آنئذٍ، والتحق بكلية أصول الدين في جامعة الأزهر، ومنها حصل على العالمية عام 1953. وكان ترتيبه الأول بين زملائه، وعددهم مائة وثمانون طالباً. وحصل على العالمية بتفوقٍ مع إجازة التدريس من كلية اللغة العربية، وكان ترتيبه الأول بين زملائه من خريجي الكليات الثلاث في جامعة الأزهر، وعددهم خمسمائة. كما حصل شيخنا الراحل على دبلوم معهد الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في تخصص اللغة العربية وآدابها في عام 1958، لاحقاً في عام 1960 حصل على الدراسة التمهيدية العليا المعادلة للماجستير في شعبة علوم القرآن والسُّنة من كلية أصول الدين بالأزهر، وفي عام 1973 حصل على الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى من الكلية نفسها، وكان موضوع الرسالة عن “الزكاة وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية”
ولم يقتصر جُهد الشيخ الراحل يُوسُف القرضاوي العلمي والأكاديمي والمعرفي على مُدراجات الجامعات ومنابر السياسة، بل انداح هذا الجُهد في كل دوائر المعرفة، وعبر كل الوسائط الصحافية الإعلامية -التقليدية والحديثة-. إذ أنه كان مدركاً للإعلام ودوره في التوعية والتثقيف والإنارة.
وحصل الشيخ الراحل يُوسُف القرضاوي على العديد من الجوائز، تقديراً لجهده العلمي والفقهي، واعترافاً بفضله في حركة التوعية والتثقيف والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة، لما يزيد عن نصف قرنٍ من الزمان، ومنها جائزة البنك الإسلامي للتنمية في الاقتصاد الإسلامي لعام 1990، وجائزة الملك فيصل العالمية.. في الدراسات الإسلامية عام 1994. وجائزة العطاء العلمي المتميز من رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا عام 1996، وجائزة السلطان حسن البلقية سلطان بروناي في الفقه الإسلامي عام 1997، وجائزة سلطان العويس في الإنجاز الثقافي والعلمي لعام 1999، وغيرها من الجوائز الإقليمية والعالمية. أما مؤلفاته تتعدى المائتين كتابٍ، وله مجموعة الأعمال الكاملة التي ستطبع في 100 مجلدٍ. وقد أُلفت عنه العديد من الكتب، وأُنجزت في علمه وفقهه، ما يزيد عن المائة من الرسائل العلمية والدراسات البحثية، منها 48 كتاباً عنه، و13 رسالة ماجستير، و8 رسائل دكتوراه، وحوالي 100 دراسة وبحث عنه.
عرفتُ الشيخ الراحل يُوسُف القرضاوي منذ تسعينات القرن الماضي، من خلال عملي في صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، وتوثقت معرفتي به عند تأسيس المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث في 29-30 مارس (آذار) 1997 في لندن، وتسنم رئاسته الشيخ الدكتور يُوسُف القرضاوي. واتخذ المجلس من المركز الإسلامي في دبلن بجمهورية إيرلندا، مقراً لرئاسته، لكنه يعقد مؤتمراته في العديد من المدن الأوروبية. فكنتُ لسنين عدداً عضواً فيه بالانتساب، ولم أكن صحافياً مجرداً فيه، فقرب ذاكم بيني وبين الشيخ القرضاوي كثيراً. وخصصتُ الصفحة الدينية في “الشرق الأوسط” لمداولات ذلكم المجلس ومقرراته، مما أحدث صدىً طيباً في الأوساط الإسلامية داخل أوروبا وخارجها. وكان المجلس بوسطية واعتدال رئيسه، يركن إلى فقه الأقليات، وفقه النوازل في كثير من مقرراته. ومن أهمها قرار المجلس في موضوع إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، إذ قرر المجلس بعد إطلاعه على البحوث والدراسات المختلفة في توجهاتها والتي تناولت الموضوع بتعميقٍ وتفصيلٍ في دوراتٍ ثلاثٍ متتاليةٍ، واستعرض الآراء الفقهية وأدلتها مع ربطها بقواعد الفقه وأصوله ومقاصد الشرع، ومع مراعاة الظروف الخاصة التي تعيشها المسلمات الجديدات في الغرب حين بقاء ازواجهن على اديانهم، فإن المجلس يؤكد انه يحرم على المسلمة ان تتزوج ابتداء من غير المسلم، وعلى هذا اجماع الأمة سلفاً وخلفاً، اما اذا كان الزواج قبل اسلامها فقد قرر المجلس في ذلك ما يلي: أنه لا يجوز للزوجة عند المذاهب الأربعة بعد انقضاء عدتها البقاء عند زوجها، أو تمكينه من نفسها. ويرى بعض العلماء القدامى والمعاصرين، أنه يجوز لها أن تمكث مع زوجها بكامل الحقوق والواجبات الزوجية، إذا كان لا يضيرها في دينها وتطمع في إسلامه، وذلك لعدم تنفير النساء من الدخول في الإسلام، إذا علمن أنهن سيفارقن أزواجهن ويتركن أسرهن، ويستندون في ذلك إلى قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في تخيير المرأة في الحيرة التي أسلمت ولم يسلم زوجها: “إن شاءت فارقته، وإن شاءت قرت عنده”، وهي رواية ثابتة عن يزيد بن عبد الله الخطمي. كما يستندون إلى رأي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: إذا أسلمت النصرانية إمرأة اليهودي أو النصراني كان أحق ببضعها، لأن له عهداً، وهي أيضاً رواية ثابتة. وثبت مثل هذا القول عن إبراهيم النخعي والشعبي وحماد بن أبي سُليمان.
وقد نشرتُ هذه القرارات التي أصدرها المجلس في دورته المنعقدة في بلنسية بأسبانيا في صحيفة “الشرق الأوسط”، بتاريخ يوم الجمعة 27 يوليو (تموز) 2001.
وأشار الشيخ الراحل يُوسُف القرضاوي في حيثيات إصدار هذه الفتوى الشرعية إلى أن الشيخ الراحل الدكتور حسن عبد الله الترابي زعيم الحركة الإسلامية في السودان، قد وصل إلى هذا القرار قبل 25 عاماً، أي في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، فهو بذلك سابقٌ لنا في هذه المسألة، موضحاً أنه خالفه في ذاكم الرأي حينها، بينما الآن يتفق معه في ما ذهب إليه في هذا الخصوص.
ومن أهم القرارات التي اتخذها المجلس هي الاعتماد على الحساب الفلكي للدخول في الأشهر القمرية، وخاصة شهر رمضان، وذلك في أوروبا خاصة، وبقية العالم عامة وذلك بهدف توحيد المسلمين، ولم شملهم وذلك في عام 2009.
وأحسبُ أن من أهداف المجلس ومقاصده التي عمِل من أجلها الشيخ الراحل القرضاوي، إعداد البحوث والدراسات الشرعية، التي تعالج الأمور المستجدة على الساحة الأوروبية بما يحقق مقاصد الشرع ومصالح الخلق. وترشيد المسلمين في أوروبا عامة وشباب الصحوة خاصة، وذلك عن طريق نشر المفاهيم الإسلامية الأصلية والفتاوى الشرعية القويمة. والشيخ القرضاوي بكسبه وعلمه وفقهه، أحسبُه من الذين قال فيهم سبحانه وتعالى: “وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِين”.
كان الشيخ الراحل يُوسُف القرضاوي ودوداً طيباً، وأخاً صادقاً، وشيخاً متسامحاً، وصديقاً كريماً، لزملائه من المشائخ والعلماء، وعطوفاً رحيماً على طلابه ومُريديه. فلا غروّ أن قال عنه الشيخ الراحل محمد الغزالي: القرضاوي من أئمة العصر.. لقد سبق سبقاً بعيداً.. الشيخ يُوسُف كان تلميذي، أما الآن فأنا تلميذه. كما قال عنه الشيخ الراحل عبد العزيز بن باز: كتبه لها ثقلها وتأثيرها في العالم الإسلامي. وتحدث عنه الشيخ الراحل أبو الحسن الندوي قائلاً: إن القرضاوي عالم محقق.. وهو من كبار العلماء والمربين. أما الشيخ الراحل مصطفى الزرقا قال عنه: القرضاوي حُجة العصر، وهو من نِعَم الله على المسلمين. وقال عنه الشيخ الدكتور عبدالله بن بية: القرضاوي إمام من أئمة المسلمين..وضمير الأمة. وكذلك قال عنه الشيخ عبدالمجيد الزنداني: القرضاوي عالم مجاهد. وتحدث عنه الشيخ راشد الغنوشي قائلاً: القرضاوي في كلمة واحدة: إمام مجدد. وقال عنه الدكتور زغلول النجار: القرضاوي.. إمام عصره بلا منازع. ولم يفت الدكتور طارق السويدان، أن يقول عنه: القرضاوي..نجم العلماء والدعاة. وغيرهم كُثر من العلماء الذين تحدثوا عن علمه وفقهه وفضله.
أخلص إلى أن الشيخ الراحل الدكتور يُوسُف القرضاوي، ذو سجلٍ ناصعٍ من الانجازات العلمية والفقهية والأكاديمية.
وختاماً أسأل الله تعالى أن تكون مؤلفاته وأحاديثه في الوسائط الصحافية والاعلامية- التقليدية والحديثة- من العلم النافع والصدقة الجارية التي ينتفع بها يوم القيامة. ونسأله تعالى أن يتقبل شيخنا الجليل الشيخ العلامة يُوسُف القرضاوي، قبولاً طيباً حسناً، ويلهم آله وذويه وأهليه جميعاً وأصدقاءه وزملاءه وتلاميذه ومعارفه وعارفي فضله وعلمه، الصبر الجميل.
“ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.