عثمان البلولة يكتب..الفاشر المدينة التي تبكي وحدها

في مكانٍ ما على خارطةٍ لا يهتم بها أحد، هناك مدينةٌ اسمها “الفاشر”.
مدينة كانت تعلّم السلام، تُطعم المسافر، وتُصلّي في الساحات…
ثم جاء يوم لم يبقَ فيه من الحياة إلا الدخان، ومن الأمل إلا دمعة لا تجد من يمسحها.
في الفاشر، الطفل لا يبكي كثيرًا…
لأنه تعلّم أن البكاء يُرهق أمه الجائعة.
وفي الفاشر، لا يسأل الناس: كيف حالك؟
لأن الجميع يعرف الجواب: “نحن أحياء… بالكاد”.
هناك، لا تُقام صلاة الجمعة في المساجد، بل في زوايا البيوت المهجورة،
ولا تُخطب الخطب على المنابر، بل على أكفّ الشهداء،
ولا يُؤذّن للصلاة من مئذنة، بل من قلب أمٍ نادت: الله أكبر وهي تدفن طفلها.
الفاشر لا تحتاج إلى كلمات، بل إلى ضمير.
إلى من ينظر إليها دون عدسات… دون شروط… دون توقيع على ورقة مؤتمر.
مدينة لا تنتظر الغذاء، بل تنتظر شيئًا أبسط:
أن لا تُترك وحدها في هذا الليل الطويل.
من داخل حصارها، كتبت الفاشر أعظم خطبة جمعة لم تُلقَ على منبر:
“اصبروا، فالله يسمع… وإن لم يسمعهم أحد.”
أهلها لم يعودوا يغضبون من الجوع،
بل من التجاهل، من العالم الذي يرى ولا ينحني،
الذي يكتب عن الحرب ولا يكتب عن الفاشر،
الذي يبيع الذخيرة، وينسى أن يرسل الماء.
في الفاشر، السجادة الأولى في كل بيت ليست للصلاة،
بل يُلفّ بها طفلٌ بردان…
وفي الفاشر، لا يُحمل الموتى في سيارات، بل على ظهور الأحباب.
أيها العالم…
توقف لحظة.
ففي ركنٍ صغير من هذا الكوكب،
تُحتضر مدينة بكل شرف، بكل صمت، بكل كرامة.
ولا أحد يبكي لها… سوى الله.