هبة بت عريض تكتب:مواطنو الخرطوم : النزوح نحو المجهول
إذا كان النزوح حصناً فجدرانه مليئة بالتصدعات
“أيها المهجر، دلنا على الطريق إلى المنفى المر”
“أنت هنا”. هذا هو موقعك على الخريطة، الآن يمكنك أن تربط نفسك بكل هذه الطرق والأماكن التي أحاول أن أخبرك عنها، تخيل نفسك واقفاً وسط شوارع غريبة، حقولٍ أو جبال وتحاول أن تتعقل في خطوتك التالية،غادرت منزلك البارحة، منذ أسبوعين، ستة أشهر او ما يذيد… إلى أين ذهبت والي أين ستذهب؟ ماذا أخذت وماذا ستأخذ؟
أنت هنا…
كانت الفكرة صادقة في ان افعل شيء مفيد ،وانا أتجول في شوارع القاهرة المزدحمة بالناس والسيارات ،اتفحص الوجوه مختلفة السحنات هنا وهناك ، واقف كثيراً علي وجوه السودانين المتعبه الرهقة، وتابعت تجوالي في وسط البلد ( عابدين )،ومنطقة ( فيصل) التي تعج بالسودانين ،تجاذبت الحديث مع أشخاص مختلفين ،من الخرطوم وبحري وام درمان، وكل الأشخاص الذين ستقابلونهم من خلال قراءة ( قصصهم)،نحوا بعد 15 ابريل ، (وبالطبع يمكنني التجول أكثر فأكثر) في كل اماكن تواجد السودانين في القاهره، والحديث مع الناس، في محاولة لفهم ما يمرون به.
أشخاص اضطرتهم الحرب لمغادرة منازلهم وبلادهم،والاتجاه الي اماكن لم يألوفها ،مساكن باردة برودة الشتاء ،يلتحفون الأرض ، وآخرين هائمون عليها.
كل الناس الذين قابلتهم أثناء تجوالي حكوا لي عن معاناتهم و عن أنفسهم وتجاربهم. وهذا ما أحاول نقله لكم أعلم أني لست مجرد رسولة ، او إعلامية ،لكن برابطة الإنسانية والدم ، طرحت الأسئلة، وأقدم لكم الأجابات علي طريقتي ..
*لم يخطر علي بالي أن شيئاً كعود ثقاب محترق، أو قصاصة ورق في الوحل، أو رقة شجر ساقطة، أو مسمار صدئ عديم القيمة، يمكن أن يكون له روح*
سألت كل شخص عن شيء، عن غرض أحضروه معهم من السودان وكيف سافروا إلى القاهرة ومن معهم ؟ بينما كنت أجمع القصص شعرت بقلبي ينفطر،ودموعي تنهمر دون ان أعي، واصبحت ضعيفة أكثر فأكثر، سيما أن العديد منهم لم يحضر معه أي شيء أي شيء ..
الآخرون أحضروا الألم، المعاناة والجروح، والبعض أبقوا فقط على الذكريات. لم يكن لديهم الوقت ولا المساحة ليفكروا بممتلكاتهم. أمسكوا أطفالهم وغادروا مرتدين ما عليهم من ملابس في تلك اللحظة.
أصبحت قصصهم رمزاً، حول انتباهي إلى شيء آخر، شيءٍ أكثر أهمية، هذه التجربة كلها حولت اتجاه تفكيرهم، رمزية الشيء الممتدة إلى رمزية ما فُقد، أو ما هو المعنى الحقيقي للأشياء التي تُروي حكايا، كما يقول علماء أصول الإنسان (الأنتروبولوجيون).
سؤالي الناس عن شيء، شيءٍ ذو معنى أو أهمية لهم، جعلني أفهم أن السبب الحقيقي لإنجاز الأنسان هو البحث عن طريقة يستطيع من خلالها الحديث عن ملايين السودانيين المهجرين حول العالم دون أن نغفل شخصيتهم المميزة، تجاربهم وقصصهم الفردية. تركوا منازلهم بسبب الحرب، التدمير، الخوف، والفقر. لن أعطيكم معلومات او بيانات كبيرة. لن أعطيكم أرقاماً وإحصائيات مخيفة. أعتقد أنكم تعرفونها (أرجوا ألا تنسوها).
لا نستطيع تشييئهم وتجاربهم بتحويلهم إلى أعمدة من الأرقام، كوم من الورق، صفحات من التقارير. طبيعتنا كبشر، تجعلنا قابلين لتشييء الآخرين، يجب أن نعي أنه بمجرد النظر أو التوجه إلى بلد آخر، نستطيع أن نضعه في موقع الشيء لامالنا،طموحاتنا، لتحديقنا، كلامنا، أو أفعالنا. البنى النحوية للغة بحد ذاتها، تصعب تجنب هذه الحالة أيضاً.
نتحدث دائماً عن ( النزوح) أو ( اللجوء)، لكن وبنفس الوقت “النزوح” موضوع اهتمامنا هذا أو مشاعرنا تلك، يمكن أن يعني أكثر مما تصورنا بداية. كيف يمكن لهذا أن يحدث؟ ماذا يمكننا أن نفعل؟ هل فقدنا التواصل مع قلوبنا؟ أين تفهمنا للآخرين؟
“ماذا علينا أن نفعل إذاً؟” تسأل شخصية تراجيدية في فيلم بيتر فاير “عامٌ من العيش الخطر” فيبقى هذا السؤال مفتوحاً، يلخص الحزن، اليأس، انعدام الحيلة، ولكن في نفس الوقت، الحاجة إلى التصرف، تغيير الإدراك، إرادة إعادة العمل على ( طموحاتنا) قد لا يكون هذا بليغاً، إذ أنه ليس إشارة ضخمة ،فقط إنها محاولة للبحث عن طرق أخرى للإستجابة والإعتراض على كل المعاناة التى نراها، قد يكون متاحاً لنا عوضاً عن الحديث عن شخص ما، أن نبدأ التوجه إلى أنفسنا، إلى مواقعنا وامتيازاتنا. أستطيع أن أحول الإنتباه من النازحين إلى نفسي، أن أضع نفسي داخل الوضع وليس خارجه. أن أكون أكثر من مجرد مُشاهدة. هل يمكن لهذا أن يعكس الرواية المعتادة؟ هل نستطيع التعرف إلى أنفسنا في هذه القصص والتجارب؟
“المفارقة التي أود الإشارة إليها هي أن هذه الأشياء التي تحمل وظيفة، من حيث المبدأ، فائدة، غرضاً، نعتقد أننا نختبرها كأدوات بحتة، في حين أنها في الواقع تحمل أشياء أخرى، فهي أيضاً أشياء أخرى: إنها حاملات للمعنى…
هناك دائماً معنى يطغى على استخدام المعني… لا يمكن لأي شيء أن يهرب منه”
ختاماً : بدافع الانتماء ،وأمل العودة الي الوطن، وامنيات اللقاء ،ودعوات الإنتصار للقوات المسلحة التي تمثلنا ( كشعب ودولة) ،سمحت لقلمي أن يروي الحكايا باستخدام الأدوات والوسائل التي أعرف كيفية استخدامها، أن يشير إلى مشكلات في إدراكنا للاجئين والنازحين هذه الفترة من تاريخ السودان.لا أود الإعتراض على على هذا المنظور.بل نحتاج أن نراجع أنفسنا،
نحن هنا. أين أنتم؟
الخاصة : ان مفهوم الأنسان الى مقتنياته مرتبط بالوضع الذي يجد نفسه فيه، غالباًما يكون اكثر من مجرد شيء يمتلكه. للذين يغادرون منازلهم على عجلة، أو يرحلون نهائياً لمستقبل مجهول، أي مقتنى جلبوه من منازلهم هو بمثابة هذا الارتباط بحياتهم وعاداتهم السابقة، بعائلاتهم ومحيطهم الذي لم يعد جزءً من حياتهم الحالية.
وانا امزح معهم ،طلبت منهم أن يخبروني أي مقتنى أو ذكرى يربطهم بحياتهم السابقة ومشاركة قصصهم التي تدور حول هذه المقتنيات، فكان ان البعض لديه ثوبه المفضل، بينما الآخر على جسده ندوب تذكره بالمحن التي مر بها حتى وصوله الى هنا. ومنهم من لديه مسبحة وعمامة يلفها علي رأسه …