ايمن عبد المجيد يكتب..بغداد.. حمدًا لله على سلامتك.. الحياة تنتصر في العراق
تسري من جديد الحياة في شرايين العراق الصامد، سريان مياه دجلة والفرات على مهل، مستدعية من عُمق التاريخ جينات الحضارة، إعلاءً للوطنية، إخمادًا لجذوة المذهبية والطائفية.
عدتها مريضة تئن آلام جراحها المُثخنة عام 2012، بعد خمس سنوات أبصرتها تجاهد على حافة هاوية الطائفية المقيتة، حذر السقوط فيها، واليوم تلمستها تنفض عن جسدها المرهق من طول قتال، غبار سنوات المعارك، تنثر بذور الحياة، تغرس أشجار الإعمار علّها تُثمر الخير لشعبها الأبي.
قبل عشرة أعوام، كانت زيارتي الأولى لبغداد 2012، بين وفد عربي إعلامي، هو الأول الذي يزور بلاد الرافدين منذ سقوطها في قبضة الاحتلال الأمريكي وحلفائه 2003م.
في قاعة كبار الزوار انتظرنا أكثر من ست ساعات، انتهاء الإجراءات، كان التأخير بفعل إجراءات أمنية مشددة، فرضتها القوات الأمريكية على مطار بغداد والطرق المُحيطة به، خلال إعلانهم إنزال علمهم عن “قاعدة المطار”، آخر القواعد العسكرية للاحتلال بالعراق.
خرج الوفد مصحوبًا بحراسات مُشددة، سيارة تشويش وسيارات تستقلها شرطة عراقية مسلحة، كانت بصمات المعارك لا تزال واضحة، في الطرقات، وعلى جدران الأبنية، بينما الأكمنة الأمنية محاطة بجدر خرسانية، يسير الموكب متجهًا إلى فندق الرشيد بالمنطقة الخضراء المُحصنة.
كل شيء كان يتحدث بلسان الصمت، فالدمار في الأبنية الذي خلّفته الانفجارات، أفصح من آلاف الكلمات، كان الخروج من الفندق مغامرة غير مأمونة العواقب، فلا تعلم متى وأين سيكون الانفجار القادم.
الخروج من الفندق كان عبر ممر أشبه بنفق، تحيطه الكتل الخرسانية والأسلاك الشائكة، كانت الجولات خارج المنطقة الخضراء مشددة الحراسة، لا تتجاوز مدة البقاء في مكان واحد أكثر من نصف ساعة.
اصطحب المضيفون الوفد إلى شارع أبونواس لتناول العشاء “سمك المسكوفي” الشهير، القادم من نيل العراق، لم نمض بعد أكثر من ساعة حتى تحرك الموكب تاركًا المطعم، أدركنا حينها أنها إجراءات أمنية احترازية، خشية رصد الوفد ممن يضمر للعراق شرًا.
يوم الجمعة ذهبنا إلى شارع المتنبي، حيث يقف شامخًا، تمثال الشاعر العربي العراقي أبو الطيب المتنبي، وعلى قاعدته بيت من شعره الفاخر: “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي.. وأسمعت كلماتي من به صمم”.
هناك كانت الحياة تصارع الموت، فهنا بائع للكُتب القديمة يفرش بضاعته الفكرية على قارعة الطريق، هناك حطام منزل أصابته قذيفة، يلقاك عراقي شيخ، فيبالغ بالترحاب عند علمه أنك مصري، يُرسل معك السلام إلى أستاذه المصري الذي درس على يديه وهو صغير.. وسط الألم كان الأمل بازغًا.
في الكاظمية والأعظمية، العباد من شيعة العراق وسنته، هؤلاء الذين التحفوا على مدار التاريخ برداء الوطنية، يعزف ساسة طامعون في السلطة على أوتارهم المذهبية، للاستقطاب والحشد، متجاهلين الخطورة التدميرية لذلك العبث بلُحمة الوطن.
زرنا عتبة الإمام كاظم، بالكاظمية، ومسجد الإمام أبو حنيفة النعمان بالأعظمية، يومها بعد ترحيب بنا، حذّر إمام مسجد أبو حنيفة من إذكاء متطرفين لنيران المذهبية لأهداف سياسية، تقف خلفها أطراف خارجية، كان الشيخ قد تعرّض لمحاولات اغتيال سابقة.
مرت سنوات خمس، عاودت الزيارة 2017، وجدت بغداد تقف على هاوية بئر الطائفية المقيتة، تجاهد حذرة أن تقع فيها، خرج الاحتلال، وتصارع فرقاء السياسة على السلطة، بخلفيات مذهبية، تضمن لهم استقطابًا حادًا، وفي تلك الأثناء كانت أيادٍ خارجية تعبث بوحدة العراق.
لم يكن الأمر في حاجة إلى دليل، فالشعارات والشارات في كل الطرقات، تُعلن عن سيطرة فصيل بأيديولوجية مذهبية، حتى العربات المدرعة، والأكمنة الأمنية كانت ترفع شارات تشير لانتماءات مذهبية دينية، وعلى جدران الطرقات صراع الشعارات، بينما وسائل الإعلام تطالعنا يوميًا بأنباء الانفجارات والضحايا.
عاودت زيارة شارع المتنبي، فإذا بالحياة تنتصر، الزوار تزايد عددهم، وباعة الكتب، ومقهى “الشهبندر”، أعرق المقاهي الثقافية بالعراق، زاخر بزائريه من نخبة الفكر والثقافة، وعلى جدرانه الصور التي يفوح منها عبق التاريخ.
يومها لفت انتباهي عبارة “مقهى الشهداء” على لافتة المدخل أسفل “الشهبندر”، ذلك المقهى الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى العام 1917، بديلًا عن مطبعة كُتب قديمة كانت مكانه، تحدثت مع الحاج محمد الخشالي، مالكه، قال: أضفت الشهداء إلى اسم المقهى تكريمًا لشهداء المقهى وشارع المتنبي الذين ارتقوا في تفجير إرهابي للشارع عام 2007.
كان نصيب الحاج محمد الخشالي، مالك مقهى الشهبندر، من قائمة الشهداء خمسة أسماء، بل فلذات قلبه، فأبناؤه الخمسة استشهدوا بنيران غدر الإرهاب، لكنه ظل صامدًا، سألته: من أين لك كل هذه القوة والصمود؟ أجاب:
إيمانًا بقضاء الله وقدره. قلت له: ما رسالتك؟ قال: العراق أقوى من الإرهاب وبإذن الله إرادة الحياة ستنتصر.
وبالأمس كنت هناك في بغداد بعد عشر سنوات من أولى زياراتي الثلاث، وجدتها صامدة، نفّضت عن ثوبها الطاهر غبار المعارك، تجاوزت المذهبية، ورفعت علم العراق وحده على مؤسساتها، وعرباتها المصفحة بالأكمنة الأمنية، اختفت مظاهر الطائفية من الطرقات.
لم تتلاش وحدها مظاهر الطائفية، بل زالت الكتل الخرسانية التي كانت على جوانب الطرقات، تحيط بالمؤسسات والمنطقة الخضراء، في مؤشر على تنامي معدلات الأمن والاستقرار، التي بثت الحياة في أرجاء بغداد وإعادة الإعمار والتنمية، تحت علم العراق فهو الأعلى، تعود قوة الدولة الوطنية تدريجيًا، مع تنامي وعي مواطنيها بأن من كان يُشعل نيران الطائفية قوى ذات مصالح ومكاسب مالية وسياسية.
انتصر العراق، طهّر أرضه من دنس تنظيم داعش الإرهابي وفلوله، يستعيد مكانته الدولية، عبر سياسة خارجية متزنة، بالأمس القريب كان رئيس وزرائها محمد شياع السوداني في زيارة للقاهرة، لبحث تعزيز التعاون مع الرئيس عبد الفتاح السيسي.
وبعدها بأيام كان رئيس وزراء العراق يُلقي كلمة في احتفال العيد 154 للصحافة العراقية- الذي حضرته ووفد إعلامي مصري ودولي رفيع، بدعوة كريمة من الصديق الأستاذ مؤيد اللامي نقيب الصحفيين العراقيين رئيس اتحاد الصحفيين العرب- كلمة رئيس الوزراء عكست إرادة سياسية ووعيًا تامًا بدور الإعلام في بناء الوعي والدولة الحديثة.
قال السوداني، إنه يعول على الإعلام كثيرًا في دعم جهود التنمية والبناء، وكشف ومحاربة ما وصفه بجائحة الفساد، محذرًا في الوقت ذاته من أن ينفذ الفساد عبر الإعلام لبث الإحباط والابتزاز.
حيا دور الإعلام الوطني، الذي وقف أفراده كتفًا بكتف إلى جوار المقاتلين على جبهة حرب القضاء على داعش، وقدمت الصحافة شهداء للوطن اختلطت دماؤهم بدماء الشهداء المقاتلين.
وفي الوقت ذاته، دعا للحذر من استخدام بعض وسائل الإعلام من قوى لها أهداف ذاتية من تعطيل جهود إعادة إعمار وتنمية الدولة الوطنية، مقدمًا حزمة من الخدمات للصحافة والإعلام بقرارات وزارية تستهدف تعزيز قدرة الإعلام الوطني على أداء دوره بحرية وكفاءة.
نهارًا ترى الحياة تسري في شرايين العراق، وتلحظ ملامح الإعمار في طرقات بغداد، فالبنيان الحديث يجرى تشييده، السواعد تعمل ليرتفع بنيانه، وفي مدينة الثقافة والعلوم كانت لنا زيارة، في كل اتجاهاتها العمران يرتفع، وليلًا تلاحظ عودة الحفلات في الحدائق العامة والمتنزهات.
تحوّل قصر المنصور الرئاسي، سابقًا، إلى مجموعة من المشروعات الترفيهية وفي حديقته تُقام الحفلات الغنائية، تحضرها الأسر والعائلات التي وجدت متنفسًا بعد طول معاناة.. الحياة والإعمار ينتصران.
كل عام والعراق وشعبه وصحفييه بخير.
بغداد.. حمدًا لله على سلامتك.