سنار والطريق إلى الهلاك
تحقيق- التاج عثمان
ضحايا المليشيا المتمردة في السودان لا تحصى ولا تعد منذ إنطلاق الحرب , المئات سقطوا صرعى برصاص الجنجويد بولايات الخرطوم والجزيرة وسنار والآلاف بدارفور تمت تصفيتهم بطريقة وحشية وبعضهم دفنوا أحياء .. التحقيق التالي يورد نماذج مأساوية لضحايا الجنجويد بولاية سنار.
مهندس الطيران:
محمد موسى صالح، خريج هندسة الطيران كلية (آي ـ ليفيل)، عمل في الطيران الرئاسي ثم تركه ليعمل في المجال الخاص.. نزح مع عائلته من العاصمة لمدينة سنجة بعد الحرب، وعندما قررت عائلته النزوح لمصر رفض الحضور معهم للبقاء والعناية بجده مصطفى يوسف الزين زمليكا بالحي الشمالي بمدينة سنجة.. وبعد دخول الجنجويد مدينة سنجة رفض الخروج وفضل البقاء للعناية بجده المسن وخاله شرف الدين الخير وعدم تركهما وحيدين، فعاد للمنزل بالحي الشمالي للخروج مع جده وخاله الذي رفض الخروج حيث كان يعاني من عملية جراحية أجريت له برجله جعلته غير قادر على المشي، فما كان منه إلا أن حمله على ظهره وخرج به مع جده من المنزل، وعندما إشتد قصف الجنجويد أدخلهما لمنزل أحد أصدقائه، ثم عاد لإصطحاب أطفال خاله.. وقبل وصوله تلقى رصاصة في ظهره من أحد جنود المليشيا من مسافة قريبة على بعد خطوات قليلة من المنزل فسقط سابحا في دمائه وظل ملقيا على الأرض حتى ظهر اليوم التالي – الأحد ـ أي أنه ظل هناك لأكثر من عشر ساعات كاملة حتى عثر على جثته بعض الجيران ووجدوه قد فارق الحياة.. وعندما شرعوا في رفع الجثمان لتجهيزه ودفنه بالمقابر رفض أفراد الجنجويد الذين كانوا يرتكزون هناك نقله وعندما أصروا على نقله ودفنه بالمقابر بطريقة لائقة هددوهم بالسلاح، فلم يجد جيرانه سوى تجهيز قبر في الشارع ودفنه هناك بملابسه.
جثة في الشارع لمدة شهر:
قام الجنجويد بإغتيال المهندس الطيار ليس لسبب سوى أنه تصادف سيره خلف أحد جنود الشرطة الذي كان يرتدي الزي الرسمي للشرطة فقتلوه أولا وبعدها صوبوا سلاحهم ناحية الشهيد الطيار فصرعوه أيضا.. وللعلم فإن جثة الشرطي ظلت في مكانها في العراء لأكثر من شهر بعد رفض الجنجويد تحريكها من جانب المواطنين الذين حاولوا دفنها في الشارع إسوة بجثة الطيار، وبعدها لم تجد احد من المواطنين ليقوم بسترها بعد أن غادر كل سكان الحي الشمالي منازلهم خوفا من بطش الجنجويد.
مجهز الموتى:
ميرغني جعفر هو أشهر مجهز موتى وحفار قبور بولاية سنار، ولا يكتفي بذلك بل يقوم بختم القرآن للمتوفين، ولذلك أصبح محل إحترام وتقدير كل مجتمع الولاية خاصة مواطني مدينة سنجة .. ذهب ذات يوم إلى السوق الشعبي لإستلام مبلغ مالي مرسل له من أحد أقاربه بالخارج.. وليس هناك وسيلة إتصال أو إرسال أي مبالغ مالية بالخارج سوى عبر جهاز الإتصال (إستارلينك) الموجود فقط لدى المليشيا والذين إتخذوا موقف تاكسي سنجة العامل بين مدن الولاية المختلفة مقراً لهم، يتجمعون منذ الصباح تحت مظلة الموقف بالعشرات يحتسون القهوة والشاي ويقومون بإستلام الأموال المرسلة من الخارج
للمواطنين الذين ظلوا داخل المدينة مقابل نسبة (15%) وبعضهم يستقطع (25%) من المبلغ المرسل.. وبعض أفراد الجنجويد (الشفشافة) المتواجدين طيلة اليوم بالسوق الشعبي يراقبون المواطنين الذين يستلمون الحوالات المالية المرسلة لهم من الخارج بواسطة بعض أفراد المليشيا الذين يحتكرون (الإستارلينك)، ويرسلون خلفهم جواسيس ليعرفوا مواقع المنازل بأحياء سنجة المختلفة ثم يهاجموهم ليلاً ويسلبون منهم أموالهم.
هذا ما حدث مع أشهر مجهز للموتى وحفار قبور بسنجة وضواحيها الشهيد جعفر ميرغني، فحسب زوجته دخل المنزل ثلاثة دعامة مخمورين بأسلحتهم حوالى العاشرة مساء وطلبوا منه تحت تهديد السلاح تسليمهم المال الذي إستلمه نهاراً من السوق الشعبي فرفض وقاومهم وقال لهم:(هذه مصاريفي ولن أعطيكم لها)، فقام أحدهم بإطلاق عدة عيارات نارية على ظهره أي من الخلف فلفظ أنفاسه الأخيرة في الحال داخل منزله.. رحمه الله.
الطبيب الشهيد:
ضحايا الجنجويد بولاية سنار خلال شهر أكتوبر بلغ (13) وفاة، منها وفاتين فقط طبيعتين، و(11) وفاة بسبب الحرب إما بطلق ناري أو من آثار النزوح .. منها على سبيل المثال مصرع الطبيب الشهيد الدكتور خالد النور فرح إختصاصي النساء والتوليد بمستشفى سنجة التعليمي وكان يقيم بميز الأطباء قرب المستشفى، وبعد سيطرة الجنجويد على مدينة سنجة دخل عليه عدد من الجنود في الميز ونهبوا أمواله وضربوه ضربا مُبرحا ثم تركوه بين الحياة والموت ليتم نقله للخرطوم للعلاج وإنقاذ حياته لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة في الطريق قبل وصوله الخرطوم.
ومن ضحايا الجنجويد الشهيد عزمي صديق جيلاني الذي تم ضربه ضربا موجعا في بطنه فأصيب بحبس بول، وخرج بمفرده من سنجة في طريقه إلى لقضارف، إلا أنه فارق الحياة في قرية (البردانة) القريبة من الدندر متأثرا بالكدمات والضرب المبرح الذي تلقاه من الجنجويد، وقام أحد مواطني البردانه بدفنه هناك ولم يعرف أهله في سنجة بوفاته إلا بعد إسبوعين.
وفاة عالمتان:
أما المواطنين الذين توفوا بسبب معاناة النزوح من سنجة, نذكر منهم على سبيل المثال العالمتان بروفيسور الزراعة فائزة عبدالله محمد عثمان الناير، والتي كانت تقيم بالحي الشرقي لشهور طويلة بمنزل عبد الرحمن النجومي مع شقيقتيها آمال إخصائي التخدير، ود. فاطمة المتخصصة الحائزة على درجة الدكتوراة في علم الاجتماع،تربطني بهن علاقة نسب, وهن كبار في السن وليس معهن أحد لأنهن أصلا من أمدرمان نزحن منها إلى سنجة بسبب الحرب، ولذلك كنت أتفقد أحوالهن يوميا وكن في حالة يرثى لها من الإرهاق والتعب بعد أن خرجن لحظة القصف على سنجة بأرجلهن لقرية العزازة شرق سنجة في طريقهن للدندر ومنها للقضارف، لكن غلبهن المسير نظرا لأعمارهن المتقدمة فعدن للمنزل بسنجة في غاية الإرهاق.. وظللن ثلاثة شهور وحدهن بالمنزل بالحي الشرقي، حتى وجدن طريقة ــ بواسطة أحد أقاربهن ــ للمغادرة بدفار حتى السلمة بالخرطوم، ومنها إلى كسلا والتي وصلن إليها بعد إسبوع كامل في حالة مرض وإعياء.. وبسبب رحلة النزوح الطويلة والمرهقة توفيت بروفيسور الزراعة فائزة بمدينة الدامر، ولحقت بها بعد نحو شهر شقيقتها د. آمال إخصائية التخدير ، والتي توفيت بمستشفى عطبرة وتم دفنها جوار شقيقتها بمقابر الدامر.. أما شقيقتهما الثالثة د. فاطمة إخصائية علم الاجتماع فتقيم حاليا بالدامر مع إبنها وإبنتها، أطال الله عمرها.
وهناك المرحومة نجوى عبد اللطيف عباس المحامية التي نزحت من سنجة أيضا وبسبب ما لاقته في الطريق من تعب وإرهاق توفيت بالدامر وتم قبرها هناك.. والمرحومة إكرام زين العابدين التي توفيت بسبب نزوحها المرهق الطويل من سنجة إلى كسلا حيث أصيبت هناك بحمى الضنك .. والحاجة جنينة عثمان محمد علي والتي توفيت بقرية مينا شرق سنجة من الرعب والخوف ومشاهد القتل والترويع التي إرتكبها الجنجويد في حق مواطني سنجة.. وزاهية محمد الحكمي التي توفيت في كسلا نتيجة إرهاق النزوح، والسجلي القطب الإتحادي المشهور وهو كفيف أخرجه إبنه من سنجة إلى المينا بالبر الشرقي فتوفى هناك كمدا وحسرة على ما حل بالسودان.
هذا قليل من كثير لأفعال الجنجويد بولاية سنار خاصة عاصمتها سنجة وقراها، وبالطبع هناك آلاف من جرائم القتل الجماعي بدارفور والخرطوم وشرق النيل وشمال بحري وشرق الجزيرة وغيرها من المناطق التي إستباحتها المليشيا المتمردة.
نقلا عن أصداء سودانية