البعد الاجتماعي في رواية (وجه القمر) للروائية أوسان العامري
بقلم الروائي والناقد اليمني: ثابت القوطاري- صحيفه النيل الإلكترونية
رصده : المغيره بكري
(وجه القمر) رواية للأديبة أوسان العامري، من إصدارات دار عناوين- ط1/ 2021م، تقع هذه الرواية في (176 صفحة) من القطع المتوسط، وتتكون من (4 فصول) بعد الإهداء وكلمة الشكر، وهذا العمل الروائي فاز بجائزة محمد عبدالولي للقصة والرواية في الدورة الأولى.
في هذه الورقة سأحاول أن أقدم عرضاً، وقراءة أولية لهذا النتاج الروائي، وسأعرج فيها على القضايا الاجتماعية التي تناولها، وظهرت بصورة ملفتة، وسأنطلق في قراءتي هذه من عتباتها الأولى بكل مكوناتها: العنوان، الغلاف، الإهداء، باعتبار أن العتبات هي المدخل الرئيس الأول، والتي ندخل منه إلى متن النص وتفاصيله، فهناك علاقة بالضرورة بين هذه العتبات وبين متن النص الروائي.
• أولاً: العتبات
يًعد الغلاف بمكوناته المختلفة والمتعددة عتبة مهمة من عتبات النص الأدبي، فهو أول ما يواجه القارئ، وما تقع عليه عيناه، فهو “مصيدةٌ لقارئ محتمل”، ويتطلب في صياغته مهارة وذكاء من الكاتب، كما أنَّ اختيار لوحة الغلاف تتطلب جهداً كبيراً أيضاً، لما لها من أهمية ودلالة وعلاقة، يستطيع القارئ أن يتكهن مجمل النص وطبيعته.
– العنوان: (وجه القمر)
على المستوى المعجمي نجد أنَّ المقصود بالوجه: نفس الشيء وذاته، قال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص:88]، والوجه ما بدا لك منه، والقمر: جرم سماوي صغير، يدور حول كوكب أكبر منه ويكون تابعاً له.
وعلى المستوى التركيبي: نجد العنوان جملة اسمية مكونة من جزئين: مضاف (وجهُ) ومضاف إليه (القمرِ) وهما خبر لمبتدأ محذوف يمكن تقديره بقولنا: (هذا): (هذا وجهُ القمرِ)، ومن دلالة الجملة الإسمية أنها تفيد ثبوت شيء لشيء.
ويتقاطع هذا العنوان مع عناوين أدبية مشابهة (شعرية وسردية) مثل: حديث القمر للرافعي1912م، وشيخوخة قمر لحامد الفقيه 2010م، وتكاسير القمر لزياد القحم 2013م، وبوح القمر لسلا القحطاني 2014م. ويرتبط العنوان بشخصية الرواية الرئيسة (ثريا)، والتي جاء وصفها على لسان شخوص الرواية:
“من رماك هنا يا وجه القمر” (صـ10)، ” تبدو من خلاله قمراً بدا من وسط الظلام” (صـ 45)
“وهل يوجد شبيه للقمر” (صـ84)، ” ها هو وجه القمر تلألأ…عاد بدراً مكتملاً” (صـ175).
وكثيراً ما تُشَّبه المحبوبة بالقمر في الأدب العربي، من أوجه عدة: لوناً وإضاءة وشكلاً.
– لوحة الغلاف
تُعد لوحة الغلاف بما تحويه من ألوان وأشكال، عتبة أخرى مهمة، لها علاقة بالنص، وتفصح عن طبيعته ومحتواه، ونحن في هذه الرواية أمام لوحة مضيئة من اللون البنفسجي المتدرج، والأحمر الزهري والأبيض، مكونة من عناصر عدة: فتاة ترتدي فستاناً أحمراً، تطل من نافذة الغرفة، تنظر إلى القمر وقد بدا بدراً مكتملاً مضيئاً، وهذه اللوحة جاء ما يشير إليها في المتن الروائي، فـ(القمر) و(الفتاة) ليس إلاَّ شخصية الرواية (ثريا) وما (اللون الأحمر) إلاَّ لون الحبِّ المشتعل في النفوس، ولون الدم الذي سفكته الحرب في 1994م، و2011م، و2015م، ولون الفستان القصير التي ارتدته سهى، وما (اللون البنفسجي) إلاَّ لون الفساتين والوسائد والزهر، والستائر التي ورد وصفها من خلال السرد بقول الراوية: “ستائر النافذة ذات اللون القرمزي” (صـ50)، “في الصباح الباكر أزاح فهد الستائر البنفسجية لغرفته” (صـ69)، ” كانت هند ترتدي ثوباً بنفسجي اللون” (صـ97)، ” احتضنت وسادتها الناعمة ذات اللون القرمزي”(صـ110)، “رأت زهرة بنفسج تحتضن حزنها بصمت”(صـ155).
ومن دلالة هذه الألوان-الأبيض والأحمر الزهري والبنفسجي- أنَّها ألوان حيوية، ترمز للصفاء، والحبِّ، والولاء، والغموض، والسحر، والإبداع، فهكذا كانت شخصية الرواية الرئيسة (ثريا) في هذا العمل السردي.
– الإهداء وكلمة الشكر
يعتبر الخطاب المقدماتي (الإهداء- المقدمة- التصدير) من مفاتيح النص الأدبي أيضاً، وقد يتدخل أحياناً في توجيه القارئ إلى كيفية تناول النص وقراءته، ونلاحظ أنَّ الكاتبة قد أهدت هذا العمل إلى اثنين: الأستاذ، والشقيقة، الأستاذ بدوره الإرشادي والتعليمي والذي أعاد إلى الكاتبة قلمها، وحفزها على الكتابة، والشقيقة بدورها الإسنادي الأخوي من خلال الاستماع لبوح الكاتبة وتجربتها الأدبية (صـ3)، وكان لا بد من كلمة شكر لكل من أرشد الكاتبة بتعليمات مهمة لإنجاز هذا المتن الروائي.
وتدل الأسماء الواردة في الإهداء وكلمة الشكر؛ على أنَّها شريكة الكاتبة في صناعة الرواية، ويمكننا بالضرورة أن نضيف القارئ مشاركاً آخر لا يقل أهمية عن صاحبة العمل، لأنَّه بقراءته يعيد انتاج النص الأدبي من خلال نص قراءته الموازي.
• المستوى الموضوعي
تدور أحداث هذه الرواية حول الموضوع الرئيس: (ثريا/اللقيطة)، والتي ظهرت في صندوق خشبي لتكمل مسيرة حياتها بأحداث ووقائع مختلفة حتى وصلت إلى كوشة العرس في قاعة الأفراح، وبين هذه المدة الزمنية الواقعة بين الصندوق الخشبي وكوشة العرس تظهر موضوعات اجتماعية وعاطفية متعددة: الحبُّ والحرب، الوطن والغربة، الطبقية، العلاقات الاجتماعية بين الجيران، الوظائف، دراسة المرأة والتحاقها بسوق العمل، العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة، علاقة المرأة بالمرأة، ويظل موضوع (اللقيطة) هو الموضوع الرئيس لهذا العمل، واللقيطة: هي الطفلة الصغيرة التي تركها أهلها خشية الفقر، أو خوفاً من العار الناتج عن الزنا، الزنا الذي يذهب ضحيته طفلة، تدفع ثمنه العمر بأكمله، حيث لا تزال كثير من المجتمعات تنظر إلى موضوع (اللقيطة) بعين الريبة والجرم والاحتقار، وتمارس عليها من التنمر والضغط الاجتماعي ما قد يدفعها إلى الهجرة أو الانحراف أو الانتحار، وقلة من تنظر إلى (اللقيطة) على أنَّها ضحية تلك اللحظات من الحبِّ أو النزوة، فنجد شخصية الرواية صالح يقول عند أول لقائه بطفلة في صندوق خشبي وضع في قارعة الطريق: “من رماك هنا يا وجه القمر؟ خطيئة حبيبين أنتِ…نظرة ثم عشق فموعد فلقاء…على رصيف الضياع والحبِّ المشبوه ينتحر العفاف، هم يخطئون وأنتم تدفعون الثمن دهراً” (صـ10)، ونجد سامراً مواسياً حبيبته (ثريا/اللقيطة) قائلاً: “ثريا أرجوكِ دعكِ من هذا الكلام، لا تحملي نفسك خطأ لم تقترفيه هذا قدرك، ارضي به مثلما أنتِ قدري الذي ارتضيته” (ص157)، وهذه هند تخاطب أمها في صديقتها (ثريا) التي اختارها أخوها (فهد) لتكون زوجته المستقبلية قائلة: “أماه ارفقي بفهد وثريا، أنت لا تعرفين تعلقهما ببعض، لمَ تحملينها خطأً لم تقترفه؟” (صـ112)، وفي المقابل النظر الاجتماعية السائدة نحو هذا الصنف من الناس، فهذه حبيبة تخاطب ابنها فهداً الذي يحاول الزواج من (ثريا): “سعادتك مع سهى بنت الحسب والنسب، ليست مع لقيطة وُجدت على باب المسجد”(صـ106).
• المستوى الأسلوبي
كتبت الرواية بأسلوب الراوي العليم، وتعتمد على عدد من الأساليب والتقنيات الفنية يمكن إجمالها فيما يلي:
1- العنونة الداخلية للفصول
تكونت الرواية من أربعة فصول، وكل فصل حوى عناوين داخلية مختلفة، هذا العناوين كانت كاشفة لمضامين الموضوعات التي تناولتها، فنجد على سبيل المثال: صندوق خشبي يحكي تفاصيل وضع اللقيطة فيه، ووضعها أمام باب المسجد، وفي أول نظرة يكشف العنوان لحظات الحبِّ الأولى والإعجاب، وفي بقايا قلب نجد لحظة الانكسار والإحباط والشعور بالأسى على الذات، وفي درع أمير الشعراء إشارة واضحة للمسابقة الشعرية العربية المعروفة، وهكذا جاءت العناوين واضحة وبسيطة، شكلت عتبات صريحة تكشف مضامين ما تلتها من أحداث.
2- السرد المباشر
تسرد الرواية الأحداث بصورة مباشرة دون مواربة، وتنتقل من حدث إلى حدث بسهولة، ولغة سلسة بعيدة عن التعقيد، وهذا ما تفرضه طبيعة الكتابة الاجتماعية على الكاتب في استخدامه للغة، مع وجود صور بلاغية مدهشة عند الحديث عن الحبِّ والعاطفة والقضايا الإنسانية، تبدأ أحداث الرواية من لحظة استرجاع إلى عام1990م، لتتسلسل الأحداث بشكل تصاعدي، حتى نصل إلى لحظة التنوير والانفراج، بانتصار الحبِّ بعد خوض تجارب متعددة فيه، كُتب في أغلبها الانهزام والانسحاب، يأتي هذا الانتصار موازياً للانتصار في الحرب على قوى الانقلاب كما تقول الرواية.
3- الوصف
تصف الرواية خور مكسر، وقلعة صيرة، وعدن، وغيرها من الأماكن، فنجد الوصف لقلعة صيرة تقول: “…الصرح الشامخ قلعة صيرة، التي تقع على الجزيرة المعروفة باسم صيرة، شرق مدينة كريتر، وهي جبل يحيط بها البحر من أربعة جوانب حيث يبلغ ارتفاعه (430 قدماً) فوق مستوى سطح البحر” (صـ55)، كما تصف المقتنيات من فساتين وستائر وهدايا، وتصف الحالة النفسية والشعورية للشخوص، كما جاء الو صف الحسي لبعض شخصيات العمل الروائي، فهذه ثريا “فتاة خجولة ترتدي عباءة فضفاضة أنيقة، وغطاء على رأسها أسود” (صـ45)، وهذا مجاهد “شاب وسيم، طويل القامة، عريض المنكبين، حنطي البشرة، أدعج العينين، تغطيهما رموش طويلة، وحاجبان كقوسين…إلخ” (صـ44)، وعلى هذا النحو يذهب الوصف في ثنايا هذه الرواية.
4- الحوار
يعتبر الحوار بشقيه الداخلي، والخارجي بين الشخصيات في السرد الروائي من أساليب التعبير، وأحد عناصر بنائه، ويتم توظيفه عبر شخوص العمل ليعبر من خلاله الكاتب عن رؤاه وأفكاره ومشاعره، فمن خلال الحوار الداخلي المتمثل بحديث النفس للشخصية، والحوار الخارجي بين الشخصيات عبَّرت الكاتبة عن وجهة نظرها من قضايا عدة، أبرزها حق الحياة الطبيعية للقيطة، كما بينت موقفها من الحبِّ والحرب، والوطن والغربة، والأحداث التي عصفت بالوطن والمواطن، فهذا حوار صالح مع أبنائه، وهذا موقف حبيبة من اللقيط في حوارها مع ولدها، وهذا حوار هند وثريا، وهكذا كل شخصية كان لها وجهة نظرها من الحياة والعالم والذات، وجهات النظر هذه هي بالضرورة وجهة نظر الكاتبة.
5- اللقطة الفلاشية
تعد اللقطات الفلاشية تقنية أدبية شهيرة يستخدمها الكتّاب عند بدء القصة لإضافة الدراما أو التشويق، أو لإعطاء القارئ المعلومات المهمة حول جزئية ما. وقد تم تنفيذ هذه اللقطة الفلاشية في هذا العمل من خلال شخصيات الرواية، على سبيل المثال شخصية (صالح) حينما “مرَّ شريط ذكريات ثلاثين سنة أمام عينيه الدامعتين كأنَّه أمس”(صـ9)، لتتوالى الأحداث، وينتشر خبر (ثريا) وأنّها في الأصل لقيطة بين الشخصيات، والأمر الذي حاول (صالح) أن يحافظ عليه عمراً طويلاً، وهذه التقنية مهمة لأنَّها تساعدنا في فهم طبيعة العلاقات بين الشخصيات، ودوافعها وخلفياتها، كما أنها تعطل الترتيب الخطي والزمني للسرد لتعطينا مزيداً من العمق والتعقيد، وخلق المفاجآت، وتعزيز فهم موضوع وفكرة الرواية بشكل عام.
هذه القراءة المتواضعة هي دعوة لقراءة هذا العمل الروائي، والتنقيب فيه عن جماليات عدة، ومستويات سردية مختلفة، وتأويل أبعاده الاجتماعية، وإسقاطاته السياسية بدء بالوحدة اليمنية 1990م، مروراً بما تلاها من أحداث عام 1994م، إلى ثورة الربيع العربي 2011م، إلى الحرب والحصار 2015م، والقارئ بما سيخرج به من قراءات موازية لنص الرواية يُعد شريكاً حقيقياً في صناعة الرواية، ومانحاً إيَّاها بُعداً مختلفاً.