اعمدة رأي

إمام محمد إمام يكتب..الصادق المهدي بين البدع والابتداع

تقدمة -2
جزى الله خيراً “الفيسبوك”، لأنه يذكرنا بما مضى مما كتبناه، -بعد سنين عددا- وبأُناسٍ كتبنا عنهم -أحياءً وأمواتاً-! وفي الوقت نفسه، يسمح لنا بالتدارك التوثيقي والأرشفة، إن فاتنا أمرهما من قبل! فاليوم (الاثنين 25 ديسمبر (كانون الأول) 2023، والسودان يعيش هذه الأيام في ظروف صعيبات، وأنا أتأمل شوارع لندن التي انفض عنها الناس، إذ أن أهليها بعيدهم (الكريسماس) يحتفلون، وغيرهم بشواغل أخرى مهمومين، ذكرني “الفيسبوك” بإعادة عُجالة كتبتها قبل أربع عشرة سنة، بمناسبة احتفائية مولد الإمام الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي -يرحمه الله-، تأصيلاً لمثل هذه الاحتفائيات! فها أنا ذا أُعيد نشرها تذكراً لسيرة ذاكم الإمام!

* تقدمة -1
كتبتُ هذه العُجالة في صحيفة “السوداني” يوم الأحد 2009/12/27، حيث كنتُ في زيارة إلى السودان إبان عملي في صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية لسنين عدداً، لإمضاء بضعة أسابيع، فكان من المصادفة أن دُعيتُ إلى احتفائية يوم مولد السيد الصادق الصديق عبدالرحمن محمد أحمد المهدي، فكتبتُ هذه العُجالة لتأصيل الاحتفاء بيوم مولد الأشخاص في مشهدٍ مشهورٍ، وفي غير مظهرٍ منكورٍ. وها أنا ذا أُعيد تلكم العُجالة اليوم، التي ذكرني بها اتصال هاتفي من الأخ محمد زكي مودع أسرار السيد الصادق المهدي، لدعوتي إلى احتفائية الإمام بذكرى يوم مولده الرابع والثمانين في صباح يوم الأربعاء 25 ديسمبر (كانون الأول) 2019، ولسان حالي يُردد قول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحُسين المعروف بالمتنبئ:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ
فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ
لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا
وَجْنَاءُ حَرْفٌ وَلا جَرْداءُ قَيْدودُ
فإن كان المتنبئ – يرحمه الله – يُساءل عيده بأية حالٍ عاد إليه، فها نحن نتساءل أيضاً بأية حالٍ عاد إلينا يوم مولد السيد الصادق المهدي؟! فأكيد ظني – وليس كل الظن إثماً – ما المسؤول أعلم من السائل! ولكني أحاول أن أعرض جوانب تأصيلي للاحتفائية الإمامية التي بسطتها قبل عشر سنواتٍ خلون.. فإليك – يا هداك الله – ما كتبتُ آنذاك بشئٍ من طفيف التعديل والتعليل:
يُعرف عن غالبية أهل السودان أنهم يجنحون إلى الوسطية بالفطرة، في كثير من الأمور، فكراً ومذهباً، ومعتقداً، ورأياً، فهم يحبون علياً حباً جماً، ولا يبغضون معاوية، حتي في المدارس النحوية والعصور الأدبية، تجدهم يستنصرون لمدرسة البصرة النحوية وفي الوقت نفسه، لا يقللون من أهمية ودور مدرسة الكوفة في تطور علم النحو والصرف. وكذلك الحال في الشعر، فتجدهم يطربون لشعر شعراء العصر العباسي، وفي الوقت ذاته، يُفتنون بشعر شعراء العصر الأموي، ويجمعون على أن أبا الطيب أحمد بن الحُسين المعروف لدى الكثيرين بالمتنبئ أستاذ الشعر العربي قديمه وحديثه. وفي الغناء والموسيقي يترخصون مع رُخص أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بنمعدان بن سفيان بن يزيد بن حزم الأندلسي الظاهري، وفي ذات الوقت، يتبعون في غير ذلك فتاوي شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام النميري الحراني المشهور بابن تيمية. ذلك يمكن القول أن السودانيين بطبيعتهم السمحة، وسجيتهم العفوية، يميلون إلى الوسطية في كل شئٍ..
فلا غروّ أن استجاب الكثيرون لدعوة كريمة وجهت إليهم من قبل أهلين وأقرباء وأصدقاء وأنصار السيد الصادق الصديق المهدي رئيس حزب الامة القومي، للاحتفاء بذكرى مولده الرابع والسبعين (الآن الرابع والثمانين)، ولما كان السودانيون يبحثون هذه الأيام (لا سيما بعد عام هو أقرب من عام الفيل من الشدة التي نجمت عنها ثورة التغيير)، عن ما يدخل في نفوسهم الفرحة والبهجة والانشراح، وينسيهم ولو إلى حينٍ، اضطراب الأوضاع السياسية والمضاغطات المعيشية ومشاكسات (مكونات قوى الحرية والتغيير والإسلاميين الذين جاءهم التغيير كموت الفُجاءة) وقلق اجندات المسيرات والمواكب والوقفات الاحتجاجية، وموازنة عام 2020 بمؤشراتها، الخفية والمعلنة، وآفاق مفاوضات السلام وقنابل تقرير المصير الموقوتة، ومصير الانتخابات العاجلة والآجلة التي يرها البعض حلاً للوضع الراهن المأزوم، ويصفها البعض الآخر بالجريمة والكارثة الكُبرى.
وفي رأيي الخاص، لقد كان ذلكم الاحتفاء بذكرى مولد الإمام الذي شهدناه قبل عشر سنواتٍ حسوماً، بالنسبة للسيد الصادق المهدي ذكرى للعظة والتذاكر، ومراجعة النفس وحصاد السنين، وأبان في غير لبسٍ ولا غموض للحضور يومها، عن ماضٍ ولى بخيره وشره، وعن حاضرٍ ومستقبل آتٍ، بمأمول خيرٍ للسودان وبيته، أما بالنسبة للحضور فكان تعبيراً عن مشاركة فرحٍ، ومباركة عام جديدٍ، في الكتاب المؤجل ودعاء بنسأة العمر المديد. وكان يوم جمعة، وهو عند المسلمين يومٌ مشهودٌ في أيام السيد الصادق المهدي، محذراً في كلمته الضافية بتلكم المناسبة من الموقف السياسي الداخلي المندفع نحو استقطاب حار، وهو شبيهٌ باليوم، فماذا يا تُرى عنه قائل، وخلط فيها بتنظيرٍ محكمٍ وتأملٍ سديد آفاق مجاهيل السياسة السودانية، وهذا ديدنه.
ومن الضروري التأصيل لاحتفاء بيوم مولد الإمام أو سواه الذي يراه البعض بدعة من البدع التي تقود إلى الضلالة ومن ثم إلى النار، ولكن في حقيقة الأمر، أنني اري أنها من الابتداع غير المنكور، الذي يؤكد ما ذهبت إليه في تقدمة هذه العُجالة من أن أهل السودان يميلون إلى الوسطية في أمور دينهم ودنياهم. وعليه فإن الإنسان من حقه أن يبتدع في العادات ما لا يتنافى مع العبادات، ولكن يحرم عليه الإتيان بالبدع في العبادات، لقوله صلي الله عليه وسلم: “كل بدعة ضلالة وكل ضلالة بدعة وكل بدعة في النار”.
وقد استوقفني في حديث السيد الصادق المهدي في تلكم المناسبة دعوته إلى كونفدرالية بين السودان وجيرانه، مصر وليبيا وإريتريا وإثيوبيا لتكوين دولة تمزج بين العربية والافريقية، وكنتُ أحسبُ أنه كان من الأوفق لو كان ركز السيد الصادق المهدي على كيفية إنشاء كونفدرالية بين ولايات السودان المختلفة، لتكوين دولة تستطيع أن تشكل قواسم مشتركة بين شعوبها لتعيش في أمنٍ واستقرارٍ، ومن ثم تتجه إلى التنمية والازدهار، ليته حدثنا عن ذلكم اليوم.
أخلص إلى أن السيد الصادق المهدي حدد جملة محاور في حديثه ذاكم بمناسبة ذكري يوم مولده الرابع والسبعين، حيث ركز في المحور الأول إلى جانب قضايا حزبه الداخلية، على تداعيات أحداث وإشكاليات الوضع السياسي الراهن آنذاك، فلا ريب أنه سيتطرق اليوم إلى قضايا مشابهة. وسيدعو إلى التوافق الوطني لمعالجة قضايا المشكل السوداني. وأحسبُ أن السيد الصادق المهدي ضمن المراجعات التي يجريها بمناسبة ذكرى مولده، من الضروري مراجعة أسباب اضطراب المشهد السياسي الراهن، ومن ثم العمل لعقد اتفاق تراضٍ جديدٍ مع القوى السياسية كافة، لأن السودان أصبح في حاجة ماسة إلى تضافر جهود بنيه، من أجل ايجاد مخرجٍ حقيقيٍ من أزمته الراهنة.
وكان جميلٌ، أن تقدم الدكتورة طاهرة الصادق المهدي كلمة الاسرة يومذاك، إذ تضمنت هذه الكلمة بعض المعاني العميقة في العلاقة بين الأبوة والبنوة، كما تنسمنا من خلال كلمتها تلكم العلاقة الحميمية بين الإبنة والأب مصداقاً للمقولة الشهيرة “كل فتاةٍ بأبيها معجبة”. ولما كنتُ في غاية الحرص، على معرفة الأسباب والحيثيات التي جعلت طاهرة تتقدم عن بقية إخوتها وأخواتها، علمتُ من مصادر العائلة أن السيد الصادق المهدي رسم هيكلية تنظيمية في علائق ابنائه وبناته بالعمل العام، وشأن العائلة الخاص. فلما كانت طاهرة تتولى أمر المسؤولية الاجتماعية، فلم يكن غريباً أن تتصدر إخوتها وأخواتها في القاء هذه الكلمة التي ختمتها بنداءٍ حميميٍ لأبيها يتعلق بتخفيف الأعباء السياسية، ورعاية صحته الشخصية، ولكنها وجهت ذاكم النداء بأسلوبٍ فيه كثير من الرقة الحنونة، والعاطفة الجياشة، مما ترك أثراً طيباً، لم يقتصر على الأسرة وأصدقائها، بل امتد إلى الحضور كافة.
وفي خواتيم عُجالتي هذه، أُكرر دعوتي ومعي الكثير من الذين يعرفون امكانات الصادق المهدي الفكرية والتنظيمية أن ينسأ الله في عمره، وأن يعطي الجانب الفكري وقتاً أطول، واهتماماً أكثر، في مقتبل الأيام لا سيما أن في جعبته الكثير من الأفكار النيرة، والمعلومات الزاخرة، التي تحتاج إلى قدرٍ من التفرغ. هذا لا يعني عدم الانشغال بالهم العام.
وختاماً، لايسعني إلا أن أهنئ السيد الصادق المهدي بهذه المناسبة الطيبة، على أمل أن يكون في هذا العمر المديد خيرٌ للسودان وبنيه، فكراً واجتهاداً ورأياً صائباً، لحل قضايا الوطن الشائكة.

النيل الإلكترونية

يزدحم الفضاء الالكتروني بالأخبار، وناقليها؛ بجدّها وجديدها.. فما الجديد إذن؟! هي (صحيفة النيل الإلكترونية) وكالة إخبارية مساحتها للكلمة الصادقة، ولا غيرها..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى