عمار عوض يكتب..مطلوب دور سعودي جديد لبناء سودان سعيد وسلم وطيد
يعقد مجلس الأمن الدولي في هذه اللحظات في نيويورك جلسة عن التطورات في السودان وتأتي هذه الجلسة في ظل كارثة انسانية غير مسبوقة في السودان وضبابية في الرؤية الإقليمية والدولية لاستعادة بلادنا من رمضاء الحروب إلى ظلال التعايش الاجتماعي والسياسي ويأتي ذلك كله في ظل حالة فرز سوداني عرف فيه شعبنا من تجربته الاخيرة والمريرة من هم اعدائهم ومن هم أصدقاؤه ومن هم اشقائه ومن هم شركائه إقليميا ودوليا ومن الطامعين في ثرواته وخيراته.
وقالت بعثة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في تصريح صحفي قبيل الاجتماع إن الوضع في السودان يستحق اهتماماً فورياً من مجلس الأمن بحسب السفيرة ليندا توماس جرينفيلد: “نأمل أن يسلط هذا الاجتماع الضوء على دعوة المجتمع الدولي للأطراف لإنهاء القتال على الفور والتقيد بالتزاماتهم بموجب القانون الإنساني الدولي واحترام حقوق الإنسان والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق لتلبية الاحتياجات الطارئة للمدنيين”.
وبالاشارة للمساعدات الانسانية رحبت اجتماعات دول جوار السودان في العاصمة انجمينا قبل يومين بخطة الاستجابة الإنسانية التي أعدتها الأمم المتحدة ودعوا البلدان والمنظمات المانحة إلى التعجيل بدعم هذه الخطة ، و”لا سيما من خلال سد الفجوة ، مع لفت الانتباه إلى الارتباط باحتياجات سكان المناطق المضيفة في شروط الأمن والتنمية مع إشارة إلى ضرورة إنشاء مستودعات إنسانية في دول الجوار لنقل الإغاثة السريعة والرعاية الطبية للضحايا.
ومن الواضح أن هناك مقاربتان الاستجابة للوضع الإنساني واحدة تدعو لتوجيه الطاقات والجهود لايصال المساعدات الى اللاجئين السودانيين في دول الجوار السوداني والمجتمعات المضيفة لهم في نفس الوقت والمقاربة الأخرى هي تلك التي تضطلع بها المملكة العربية السعودية عبر مركز الملك سلمان للإغاثة في (رياض الخير) الذين شرعوا في تقديم المساعدات مباشرة الى اهلنا السودانيين المكتوين بنار الازمة ،التي خلفتها حرب الاهواء الشخصية وطموحات النفوذ قصيرة النظر عديمة الانسانية ، وسرعة الاستجابة هذه من السعودية ليست غريبة عليها ولا على شعبها فهم اهل (فزعة ووجعة) حيث بلغت التبرعات الشخصية التي تم اعلانها من قبل الحكومة وعبر ذراعها (مركز الملك سلمان للاغاثة) الى 58,844,274 مليون ريال سعودي تقدم بها 330 الف من مواطن ومقيم بحسب اخر اخصائية للمركز الذي اوضح ان السودان ياتي في المركز الثامن دوليا والثالث عربيا في تلقي المساعدات والتي بلغت 63 مليون دولار حتى يوم 30 أبريل الماضي .
وكنت اكثر الناس سعادة هذا الصباح وانا اطمئن على الاهل في امدرمان الصامدة ، التي ضربت اروع الامثلة في الايثار رغم ما بهم من خصاصة ، وهم يبلغوني بسخاء وفاعلية المساعدات السعودية وكما قال في رسالته ( والله جاتنا في جرح حاجات السعوديين ديل اخير من غيرهم كلامهم كثير وما شفنا منهم حاجة ).
لذا لم استغرب وانا اطالع اعلان حكومة جلالة الملك تشارلز الثالث ملك بريطانيا العظمى عن توقيع وزير شؤون التنمية اندرو ميتشل في العاصمة لندن اتفاقية مع د. عبدالله الربيعة مدير مركز الملك سلمان للاغاثة بمبلغ 9 ملايين دولار دفعة اولى من الحكومة البريطانية للاستجابة الانسانية للازمة في بلادنا ، وهذا ليس غريب على بريطانيا التي عبر معرفتها العميقة بما يجري على الارض ،عبر رجال ونساء امناء، ان السعوديين هم الوحيدين الموجودين في مدن وقرى النزوح يغيثون عفاف النفوس من اهلنا السودانيين الذين اختارو البقاء والصمود في مدني وعطبرة وشندي والان امدرمان .
ووفق الترتيب الالهي لاولويات الاستجابة الانسانية الذي بينه الحق عز وجل في كتابة االكريم مقدما الاطعام على الامن بقوله ( اطعمهم من جوع وامنهم من خوف) وبما ان مقاربات العون الانساني من المتوقع ان تكتمل فصولها قريبا ان كان عبر البيان بالعمل الذي يقوم به مركز الملك سلمان ورجاله في السفارة السعودية وعلى راسهم السفير علي بن حسن جعفر (السعوداني) الأول الذي سياتي يوم ويقدمه السودانيين حبا وكرامة لارفع منصات التكريم (الدولي ) لما يقوم به من جهود لسلامة السودان وشعبه ووحدة اراضية واستمرارية وتطوير مؤسساته ان كان ذلك عبر جهوده الخاصة او المشتركة مع الفاعلين السودانيين والشركاء الاقليمين والدوليين بعد نجاح الثورة والتغيير في السودان في كل مراحله والتي انهارت بفعل ضيق الافق وقصر النظر حينا من سياسينا السودانيين او من الحرب التي اشعلها مؤخرا (محمد حمدان واعوانه ) التي احالت السودان كله الى كوم رماد وحزن وحسرة على المواطنين وخوف مريع وسط الشباب من الحاضر في ظل تباين الجهود الدولية والاقليمية لانهاء الحرب في السودان بصورة منطقية تعيد الاستقرار وتبني المستقبل ان كان ذلك عبر مبادرة الايقاد التي رفضتها الحكومة والجيش السوداني لانها استفذت السودانيين وطعنتهم في سيادتهم على ارضهم وهي تطرح اخراج الجيش القومي من عاصمة البلاد عبر (المنطقة منزوعة السلاح) ، فيما رفض احد الاطراف المدنية بالمقابل ما تسرب من تفاصيل مقاربة الاتحاد الافريقي التي تسعى الى حوار سوداني – سوداني لاحتوائه على مشاركة (حزب المؤتمر الوطني المحلول ) بفعل الثورة الى جانب قوى الثورة والتغيير في العاصمة اديس ابابا ، فيما يراوح منبر جده مكانه و الذي يضم الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ، وهو القشة التي مازال السودانيين يعلقون عليها امالهم لانقاذهم من الغرق في بحر الفوضى الى جانب منبر دول جوار السودان الذي اعاد الثقة للسودانيين للتعاطي بايجابية مع الجهود الاقليمية بعد ان اصابتهم الصدمة من مقاربات الايقاد والاتحاد الافريقي والنظرة الامريكية المشوشة تجاه سبل انهاء الازمة في السودان وذلك ليس ضعفا امريكيا بقدر ما انها تقرا من الاوراق الخطا التي تاتي من بريد ملئ بقصر النظر والاحادية وهوى النفس المغبونة .
ان الرهان على دور سعودي جديد حيال الازمة في السودان لا ينبع من فراغ بل من تجربة راسخة في فض النزاعات واخماد بؤر التوتر وتاسيس الدول بشرعية الاتفاق والتوافق ، وليس هناك من مثال ناصع لهذه الحكمة والواقعية السياسية في (السعودية الجديدة ) في التحركات الدبلوماسية وبعد نظر الامير محمد بن سلمان امير شباب المستقبل العربي الواعد الذي انتهج سياسة (تصفير المشاكل بالعزة مع الواقعية) وهو يعيد سوريا الى الحضن العربي في اجتماعات الرياض الاخيرة التي انهت قطيعة غير مبررة بين اركان البيت العربي ، ولم يقف عند هذا الحد بل زاد عليه بالتوافق مع ايران على مبدا (لا ضرر ولا ضرار) وكانت اخر مساهماته الدولية في اجتماع جدة حول الازمة الاوكرانية – الروسية الذي سارت به ركبان الشاشات ومواقع الاخبار تبشر باختراق سعودي لسبل الحل لهذه الأزمة التي ألقت بظلالها على العالم اجمعه.
وعمق التجربة والحكمة السعودية في اخماد بؤر التوتر لا يخفى علينا في السودان ومازالت ذاكرتنا السياسية والصحافية في السودان تذكر كيف نجحت السعودية في نزع فتيل التوتر بين السودان وتشاد الذين وصل بهم العداء في سنوات حكم البشير الى مرحلة معاونة الرئيس الراحل ادريس ديبي للمعارضة الدارفورية لغزو امدرمان الذي قابله معاونة البشير للمعارضة التشادية التي وصلت مشارف القصر الرئاسي في انجمينا ، لكن حكمة وحنكة القيادة السعودية ممثلة في الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله نجحت في الجمع بين الرئيس المتخاصمين (ديبي – البشير) في مدينة جدة والذين استجابوا للمقاربة السعودية التي اعادت العلاقات بين البلدين لافضل مما كانت عليه من تنازع وحروبات الى علاقه مبنية على الاحترام وتبادل المنافع وما كان ذلك ليكتمل عسلا صافيا لشعب السودان وتشاد لولا الحكمة والاطروحات السعودية التي وضعت حدا لعشرة سنوات من الصراع السوداني – التشادي بالوكالة وترسي بفضل الملك عبد الله علاقة متينة وصل الان عمرها 15 عام من التوافق والتوافق السوداني – التشادي .
وبناء على ما سبق يتطلع السودانيين الى دور سعودي جديد مشابه للدور الذي قام به طيب الذكر الملك فهد ابن عبد العزيز عندما جمع الفرقاء اللبنانيين في مدينة الطائف في ايلول سبتمبر 1989 لينهي 15 عام من الحرب الاهلية الدامية في لبنان بمشاركة سورية التي كانت تتواجد بجيشها في لبنان ، حيث جرى التفاوض بين مختلف الفصائل اللبنانية السياسية والمسلحة بكافة اطيافها وتعدد الولاء الاقليمي بينهم حيث جرى التفاوض في الطائف لوضع إطار تأسيسي للدولة اللبنانية عبر مبدأ «التعايش المشترك» بين الطوائف اللبنانية المختلفة وتمثيلها السياسي السليم كهدف رئيسي للقوانين الانتخابية البرلمانية في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية. كما أعادت هيكلة النظام السياسي للميثاق الوطني في لبنان عن طريق نقل بعض السلطة بعيداً عن الطائفة المسيحية المارونية التي كانت منحت مركزاً متميزاً في لبنان منذ عهد الانتداب الفرنسي. إنشاء ميثاق يقسم السلطة بين الطوائف ويبني نظاما ديمقراطيا ظل صامدا حتى اليوم رغم مرور 30 عاما عليه.
الان كل الظروف ليست مواتية فقط بل الحوجة للسلام والثقة السودانية الوافرة من السودانيين في السعودية ليس لاعتبارات التجارب وبرهانها الدائم على أنهم ليسوا أصحاب طمع بقدر ما أنهم أصحاب وجع فرضه الجوار يفصلنا بحر ويجمعنا التعايش منذ عشرات بل مئات السنين ، وفي ظل التباين الدولي بعد عودة سفير الولايات المتحدة دون إعلان عن خارطة طريق لإنهاء الازمة والتباين السوداني تجاه الدور الأفريقي ، وفي ظل استمرارية منبر جدة الذي يجمع الجيش والدعم السريع للنقاش حول قضايا وقف إطلاق النار الذي يراوح مكانه لكن ما زال الجيش و(الدعم السريع ) والأطراف المدنية يجددون ثقتهم في المنبر السعودي- الأمريكي ويتطلعان لتطويره ليشمل مناقشة القضايا السياسية الى جانب قضايا وقف اطلاق النار .
وبما ان دول جوار السودان ايضا ليس لديها مانع بل لديها رغبة معلنة للتنسيق مع الدور السعودي في ظل ترحيب كل الاطراف السودانية بهذا الدور تكون الفرصة مواتية لبناء السودان من جديد بشرط تغيير المنهج للتعاطي مع أزمات السودان التي كان دائما يضع لها الحلول على أساس (تقاسم السلطة) طريقا لانهاء الازمة ان كان ذلك في نيفاشا وابوجا او امريكا او حتى اتفاق جوبا الاخير بعد ثورة ديسمبر المجيدة ، ان الطريق الأمثل بعد كل هذه التجارب الفاشلة إعادة السلام والاستقرار طوال العقود الاخيرة يكمن في اتباع منهج يقوم على (تأسيس الدولة ) بالشكل الذي تم في مؤتمر الطائف في لبنان العام 1989 .
ان اتفق الناس على تغيير(المنهج) و(توحيد المنبر وتكامله مع الجوار السوداني) يمكن أن تستضيف المملكة العربية السعودية جميع الفصائل السودانية المسلحة منها والمدنيين إلى جانب الجيش السوداني وممثلي (الدعم السريع) لوضع إطار تاسيسي يقود لتأسيس جيش سوداني قوي وموحد عبر تفاوض تشارك فيه جميع الفصائل المسلحة ليست الموقعة على سلام دارفور في جوبا بل تشمل الدعوة قوات الجيش الشعبي بقيادة عبد العزيز الحلو وجيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور الى جانب القوات المسلحة و(الدعم السريع) للخروج بصيغة عملية توحد وتبني الجيش الموحد المنشود .
وفي الجهة الأخرى يكون ممثلي الأحزاب السياسية المؤثرة والفاعلة في المشهد دون إقصاء للأفكار لكتابة ميثاق وطني يؤسس للدولة والعلاقات بين كافة مستوياتها والحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية لشعوب السودان على ان يتم استفتاء السودانيين على هذا الاتفاق ليكون ملزما لكل مواطن سوداني وتشكل على أثره سلطة غير حزبية تقوم بالترتيب لإجراء الانتخابات العامة بعد إصلاح الحياة السياسية وإعادة إعمار السودان من قبل الشركاء عامة والسعوديين خاصة لما لهم من قدرات اقتصادية وأفكار لبناء (شرق أوسط جديد وبحر احمر سعيد) وسلم وطيد يكون عبره السودان المستقر رأس الرمح في الدفاع والاقتصاد في نفس الوقت .
عمار عوض، كاتب صحافي سوداني ومستشار سابق في برنامج الامم المتحدة الانمائي _ السودان العضو المؤسس لشبكة الصحفيين السودانين ، تفرغ لمراقبة الانتقال السوداني منذ العام ٢٠١٩.