إمام محمد إمام..عمر محمد الطيب.. رجل الأسرار والخفايا عند مليكٍ مقتدرٍ!
غيب الموتُ، الذي هو علينا حقٌ، ومُدركنا أينما كنا، وكيفما عِشنا، ولن يجد المرءُ فكاكاً منه، ولا مهرباً، فهو عند جمهور الفقهاء القضاء المبرم (الموت)، سواء أدركنا بُغتةً دون عِلةٍ أو مرضٍ (موت الفُجاءة) أو بقضاءٍ مؤجلٍ (المرض). فالموتُ قدرٌ مقدورٌ، لكل إمرئٍ في كتابٍ مسطورٍ، ولوحٍ محفوظٍ، لن نستأخره، ولن نستقدمه. وقد قال الله تعالى في ذلكم: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ”. وكل نفسٍ ذائقة الموت، تصديقاً لقوله سبحانه تعالى: “كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”. ولم يجد الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سُلمى في التماسة عفو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يُرسل حِكمةً بليغةً، في ثنايا لاميته الشهيرة، في حضرة النبي الكريم، حين قال:
كل ابن أُنثى وإن طالت سلامتُهُ
يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
تُوفي إلى رحمة الله تعالى الفريق الدكتور عمر محمد الطيب النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس جهاز أمن الدولة الأسبق مساء يوم الثلاثاء 11 يوليو (تموز) 2023، في القاهرة، عن عُمرٍ يُناهز السابعة والثمانين عاماً، حيثُ وُلد في فبراير (شباط) 1936 في قرية الزيداب شمال السودان. وكانت أسرة الراحل عمر محمد الطيب تعمل في مجالات الزراعة، قبل مصادرة أراضيهم لصالح مشروع الزيداب الزراعي. فلا غروّ، أن كان له اهتمام بالزراعة والتشجير والنباتات المثمرة والظليلة. وانتقلت الأسرة إلى الخرطوم، حيثُ درس فيها المرحلة الابتدائية والمرحلة الثانوية. والتحق الراحل بالكلية الحربية في عام 1955، ضمن ضباط الدفعة (السابعة) كلية حربية، وقد عمِل في مختلف تشكيلات ووحدات القوات المسلحة أبرزها، قائداً للمنطقة العسكرية الجنوبية، وإدارة العمليات الحربية، وقائداً لسلاح المدرعات، وقائداً للكلية الحربية السودانية، وقائداً لمنطقة الخرطوم العسكرية.
وكان الراحل الفريق عمر محمد الطيب يعتز كثيراً بعسكريته. وكان ضابطاً مبرزاً في الجيش السوداني، وقد أبلي بشهادة رسلائه في العسكرية، بلاءً حسناً في المناطق التي عمل فيها. وأهلته خدمته العسكرية الممتازة، للحصول على كثير من الأوسمة والنياشين والامتيازات والدورات التدريبية في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا والعراق.
واكتسب شهرةً واسعةً في العسكرية إبان التمرد الأول في الجنوب والذي انتهى باتفاقية أديس أبابا في 3 مارس (آذار) 1972. وتسنم رئاسة جهاز أمن الدولة في عام 1982، وعمل جاهداً بخلفيته المتصوفة، ومغاضبة وموجدة الرئيس جعفر محمد نميري (1969 – 1985) على مضايقة الشيوعيين، وحماية السودان من المؤمرات الخارجية، وبذل جهداً مقدراً في تطوير المؤسسات العسكرية والأمنية. كل ذلكم، ساهم في إقناع الرئيس جعفر محمد نميري لاختياره نائباً أول لرئيس الجمهورية.
وكان الراحل عمر محمد الطيب قائداً عسكرياً فذاً، ويُعد مستودعاً لأسرار وخفايا حِقبة مهمة من تاريخ السودان الحديث،
وله اسهاماتٍ غير منكورةٍ، في مجال الدراسات الأمنية في الداخل والخارج.
وأحسبُ أن الراحل عمر محمد الطيب لعب دوراً فاعلاً، في إنفاذ مهام ترحيل يهود الفلاشا، وتوطينهم في إسرائيل، بناءً على أوامر الرئيس جعفر محمد نميري، وباتفاقٍ مباشرٍ مع الإدارة الأميركية آنذاك، والتي بسببها قُدم إلى محاكمة شهيرة برئاسة القاضي عبد الرحمن عبده -ابن بلدتي كسلا- بعد انتفاضة إبريل (نيسان) 1985. وكانت هذه المحاكمة قد استقطبت الكثير من السودانيين متابعتها من خلال التلفاز وقتذاك. وتُعد تلكم المحاكمة من المحاكمات القليلة التي برع فيها كل من القاضي (عبد الرحمن عبده) والمحامي (عبد العزيز شدو) للدرجة التي جعلت جماهير الانتفاضة تخرج في مواكب احتجاجية هادرة، تهتف “مكتب شدو نحن نهدو”! وحُكم عليه بتسعين سنة، لكنه لم يمكث في السجن سوى أربع سنواتٍ، فأفرجت عنه الإنقاذ بعد تسنمها السلطة بالسودان في 30 يونيو (حُزيران) 1989، سافر بعدها إلى السعودية في عام 1989، ثم عاد إلى السودان بعد أحد عشر عاماً أي في عام 2000، بعد العفو عنه وإرجاع كل ممتلكاته المصادرة.
عرفتُ الراحل الفريق عمر محمد الطيب في بواكير عهدي بالصحافة والإعلام، في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وكنتُ وأنا صحافياً ناشئاً أحضرُ مجلسه عقب صلاة الجمعة في منزله بكوبر. وأدلفُ إلى مكتبه في القصر الجمهوري للتزود بالأخبار والتصريحات لصحيفتي الصحافة وقتذاك، وساعدني في ذلكم القُرب من الرجل الثاني في البلاد الذي لا يدلف إلى مكتبه رسلائي من ناشئة الصحافيين آنذاك، أحسبُ ما كنتُ أقدمه من برنامج “شذرات من الثقافة” التلفزيوني مع أستاذي الراحل البروفسور العلامة عبد الله الطيب -تنزلت عليه شآبيب رحمات الله الواسعات- والذي كان يُمهد ليّ السبيل لمجالسة أعيان ذلكم الزمان -ساسةً وأطِبةً وعسكراً وغيرهم، وأنا ما زلتُ أطرق بوابة صاحبة الجلالة “الصحافة“ بكلتا يديّا.
كان الراحل عمر محمد الطيب قليل الكلام، مُصغياً لمحدثيه، يُلفت الانتباه تواضعه الجم، ولكن عندما تعرف حبه للتصوف والمتصوفين، تدرك كنه هذا التواضع، طيباً خلوقاً، وكريماً حليماً، وعطوفاً حنيناً، وصادقاً مخلصاً. كان يعامل رئيسه بإخلاصٍ وتفانٍ، ومرؤسييه بودٍ وتواضعٍ. وكان يسعى جاهداً في هذه الحياة الدنيا، أن يتنزل فيه قول الله تعالى:
“وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ”.
وتعرفت على ابنه ماجد في بريطانيا، حيثُ كان يعمل في أحد مستشفياتها، وكنتُ أعمل في صحيفة”الشرق الأوسط” اللندنية، والأمين العام للمجلس القومي السوداني في المملكة المتحدة وإيرلندا برئاسة سماحة الشيخ الراحل إبراهيم الطيب الريح -يرحمه الله-، إذ كان مجلسنا ذاكم، يُسير القوافل الطبية والصحية من بريطانيا إلى السودان، وكان الدكتور ماجد من ضمن الأطباء المشاركين في هذه القوافل، من هنا توثقت علائقي بالأب والابن معاً.
وعلمتُ بعد حينٍ، أن ابنه ماجد أسماه بماجدٍ، تيمنناً برسيله منذ عهد الكلية الحربية الفريق أول عبد الماجد حامد خليل النائب الأول لرئيس الجمهورية ووزير الدفاع الأسبق، وكذلك عبد الماجد حامد خليل سمى ابنه عمر تيمنناً برسيله عمر محمد الطيب، وكان بينهما صداقةٌ حميمةٌ، وتنافسٌ كبيرٌ. فكان عمر رجل أسرار وخفايا، بينما عبد الماجد غير ذلك!
وحجاجي في حب الراحل الفريق عمر محمد الطيب للصوفية والمتصوفة، أنه كان يُكثر الزيارات إلى مساجدهم ومسائدهم ومجالسهم. وأعلمُ أنه كان يحرص أيمَّ حرصٍ على حضور مجلس عبد الله السيد الشهير في حي العرضة الذي يُعقد مغرب كل جمعةٍ، يتذاكرون فيه السيرة النبوية العطرة وأحاديث أخرى، مع عددٍ من رجالات المال والأعمال، من بينهم الحاج التجاني محمد إبراهيم -يرحمه الله- وآخرون.
أخلص إلى أن وفاة الفريق عمر محمد الطيب، تجئ والسودان في حرب بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع المتمردة، التي شغلت السودانيين داخل السودان وخارجه، فلم يعُد معظمهم يلتفت إلى جسام الخطوب، سوى تداعيات تلكم الحرب! لذلك غاب حدث وفاته، ولم يحظَ بما يستحق من ذكرٍٍ وحديثٍ، عن الأحداث التاليات. تذكرتُ وأنا أكتب هذه العُجالة الرثائية، ما حدث ليّ في أغسطس (آب) 2005، عندما كنتُ أعمل في صحيفة “الشرق الأوسط”، إذ كنتُ مع زوجتي صباح ذاكم اليوم في السيارة لقضاء بعد الأغراض قبل الذهاب إلى العمل، فاتصل بي الأخ عثمان ميرغني عبد الله نائب رئيس تحرير جريدة”الشرق الأوسط” اللندنية إنئذٍ، فحسبته سيعلمني بمقتل العقيد الدكتور جون قرنق النائب الأول لرئيس الجمهورية، فسارعتُ بإعلامه بمقتل جون قرنق في حادث طائرة، وإني وجهت سكرتارية التحرير بزيادة عدد الغد. فقال ليّ دع أي شئ، فقد تُوفي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز. فاتجهتُ إلى High Holborn بوسط لندن، حيثُ مقر الصحيفة. وبالفعل نشرنا خبراً موجزاً عن مقتل جون قرنق في الصفحة الأولى بالصحيفة، بينما أفردنا الجريدة كلها، وليس الصفحة الأولى لخبر وفاة الملك فهد ولأيامٍ متتالياتٍ. فلا غروّ، إن انشغلت الوسائط الصحافية والإعلامية -التقليدية والحديثة- هذه الأيام، عن وفاة الفريق عمر محمد الطيب، ولم تولِه ما يستحق من نشرٍ ومرثياتٍ، وضجت بأحداث المعارك، وتداعياتها في المدن الثلاث، الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان!
أخلص إلى أن الراحل الفريق عمر محمد الطيب تفرغ للبحث في المجالات العسكرية والأمنية، على الرغم من معاناته من المرض. وأكمل بحثاً مطولاً، حصل على أثره على شهادة الدكتوراه. وكان مهتماً برعاية عددٍ من الجمعيات الخيرية، ونشط في مجال التوعية بمخاطر الألغام، ورعاية المسنين، ومكافحة أمراض السرطان، إلى جانب اهتمامه بجمعية شجرة الحياة والتي يسعى من خلالها إلى إصحاح البيئة، وتوفير الغذاء للجوعى.
ألا رحم الله تعالى الفريق الدكتور عمر محمد الطيب، رحمةً واسعةً، ومغفرةً من لدن مليكٍ مقتدرٍ، وتقبله الله قبولاً طيباً حسناً، وأنزل عليه شآبيب رحمات الله الواسعات، وألهم آله وذويه وأهليه جميعاً، وأصدقاءه وزملاءه وعارفي فضله وعلمه، الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الصدد، قول الشاعر العربي أبو الطيب أحمد بن الحُسين المعروف بالمتنبيء، حين قال:
وما الموْتُ إلاّ سارِقٌ دَقّ شَخْصُهُ
يَصولُ بلا كَفٍّ ويَسعى بلا رِجْلِ
ولنستذكر فوق هذا وذاك، في هذا الموقف الصعيب الأليم، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.